بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلاة نزور فجأة قفز بيت الشعر أعلاه الى ذاكرتي عندما نظرت الى اعلى. كانت صفحة السماء مكدسة باسراب عديدة، متنوعة.. قريبة وبعيدة. كانت مجموعات من الطيور تسبح في ذلك الافق الرحيب.. لم تكن فيه غلالات من السحب البيضاء، او السوداء الداكنة، كان عبارة عن صفحة من الورق المقوى المدهون بلون ازرق تركوازي.. اسراب الطيور تسرح وتمرح فاردة اجنحتها السوداء والبيضاء، وتعكس خلفه قطعا من المساحات الزرقاء تكون اشكالا ونماذج فنية رائعة تنم عن لوحات سريالية ابدعتها انامل سلفادور رالي.. كان يسبح وسط تلك الاسراب نسر اسود، ضخم الحجم.. ينشر جناحيه فيبلغ طولها الثلاثة امتار او اكثر. رأسه يتوسط اعلى الجناحين، وذيله منشور في شكل مروحة يابانية يدوية يحركه يمنة ويسرة حتى لا يفقد توازنه ويسقط. كانت تلك الطيور مختلفة الألوان والأحجام لكنها تطير غير بعيدة من بعضها.. تطير مكونة دوائر منتظمة وغير منتظمة تنسج في مجموعات كبيرة وتنفرد في مجموعات صغيرة لكنها ليست ببعيدة عن السرب. طبقة الارض التي تمتد تحت هذا الافق الملبد باسراب الطيور أرض غنية... اصابها وابل غزيز من المطر السحاح.. فاكتست الارض بالاعشاب المنبسطة والاعشاب المزهرة.. واخرجت الارض اثقالها. فأخذت العصافير تطير من شجرة الى شجرة ومن غصن الى غصن.. وأخذ العتاب يقفز من كان الى مكان.. اما الفراش الملون المجنح فقد كان يزور كل زهرة انفتحت اكمامها وغاص الرحيق المسكر في قاع الاكمام. ويحط رجليه الخفيفتين على صفحات الازهار والورود يصفق بجناحيه الملونتين ايما تصفيق ويغرس اباره المجوفة في قاع الزهرة ليمتص الرحيق المختوم.. وتأتي بغاث الطيور تطارد الفراشات من غصن الى غصن، وتنزل الى الارض تقبض العتاب والجراد والقبور والحشرات.. واذا ما عطشت دنت من النيل، تشرب وربما غمست اجنحتها وابتردت. كان النيل يسير الهوينى من الجنوب الى الشمال.. تحف شواطئه اشجار ضخمة طويلة على ضفتي النيل. أغرت هذه الأشجار طائرا من الطيور الوديعة ان يبني له عشا وسط تلك الاغصان. فجعله في مكان حصين.. لا تراه القطط البرية المتوحشة او الثعابين الضخمة التي تتسلق اطول الاشجار.. باض ذلك الطائر الجميل الوديع الي يشبه حمام جبل (التاكا) بكسلا.. حضن الطائر البيض .. منح بيضه كل ما يملك صدره من دفء وحرارة حتى فقس.. جاءت صغاره، زغب الحواصل ينبت ريش صغير رفيع كأنها شعيرات نثار الدقن عيونها جاحظة مناقيرها عريضة مفرطحة.. اذا فتح الزغب فمه كأنه فوهة القربة يفتح فمه لتناول اي شئ جزء من جرادة، حبة قمح، فقشة لوبيا، رأس حشرة صغيرة سوداء او سمراء. كانت امهم كثيرا ما تطير ولا تعبد عن العش كثيرا ولا تغيب طويلا.. خوفا على صغارها من نوائب الدهر.. سرعان ما تحضر.. تدب الحياة وينتعش العش وترسل الى الصغار الحانا غير موسيقية لكنها الحان الفرح. يفرحون بعودة الام وبالغذاء الذي جلبته لهم.. يحصل الهرج والمرح.. يتدافعون ويزحفون نحو مكان امهم فاغرين افواههم مشرئبة أعناقهم يفردون اجنحتهم كيما يبعد الواحد أخاه ليلحق بأمه ويتناول منها أكبر حصة عادت بها. شبت هذه الفراخ عن الطوق، وفي ذلك اليوم هبت الرياح الجنوبيةالغربية فتمايحت تلك الأغصان وتلاعبت الريح بالفروع ..... ظهر ذلك العش لنسر اسود ضخم الجثة.. كان يطير وسط تلك الطيور نزل النسر درجات حتى صار قريبا من تلك الشجرة وهو يحرك رأسه الاصلع يمينا ويسارا.. لقد كان فرحا.. اخذ يطير بعيدا من الشجرة ثم يأتي إليها يكاد يلامس تلك الأغصان ويرتفع طائرا بعيدا، شعر الطائر الوديع وهو يجثم في عشه محتضنا فراخه.. احس بأن هنالك خطرا يداهمه ربما نوى ان يفترسه او يقتنص صغاره. الآن تأكد للطائر بما لا يدع مجالا للشك ان خطرا سيداهمه سريعا عندما نزل النسر من أعاليه مسرعا وضرب الفرع الذي يمد ذلك الغصن الذي بنى عليه ذلك الطائر عشه الهادي الوديع. في هذه اللحظة دست الفراخ رؤوسها داخل فروج الريش الذي كان على صدر الطائر .. لقد شعرت هي كذلك بالخطر. إحتار الطائر في امره وفكر في الخلاص .. وكيف ينجو من هذا النسر اللعين صمت برهة.. اخذ يعمل في فكره في الخلاص.. يغمض عينيه البراقتين ثم يفتحها الأمور لا تجري كما هو مخطط لها.. لقد نوى هذا النسر اقتناص هذا الطائر اولا ثم فراخه بعده.. كان هناك في الجو ووسط تلك الجموع الطائرة والمحلقة في كل الاتجاهات وفي كل الأبعاد عقاب شرس.. ذهبي الريش. ضخم الرأس معكوف المنقار حاده .. ذو عينين براقتين حادتين يرى فريسته من ارتفاع بعيد ينحدر إليها ويقتنصها .. سواء أكانت ريما او حية رقطاء... لمح ذلك العقاب ذلك النسر... علم ما كان ينوي النسر ان يفعل بالطائر وصغاره.. دارى العقاب النسر حتى صار قريبا منه. نزل عليه خبطه خبطة خبطتين بجناحيه القويتين ثم غرس منقاره الاصفر القوي المعكوف حتى طار يافوخه. صدقت العوام حين قالت: «ابو القدح بعرف مكان عضة أخوه» سقط النسر من عل وأخذ يتخبط فاردا جناحيه.. يغمض عينيه ثم يفتحها... يترنح ويتأرجح .. يسقط يقع على الارض.. يضجع على صفحته اليسرى ثم اليمنى. غشى بصره.. ترنح ثم قعى على الارض... يخبط التراب بجناحيه.. طار العقاب بعيدا.. انضم الى اسراب الطيور .. اخذت تحلق وتدور وهي في الاعالي .. سكن الجو.. هدأت الريح، هب النسيم عليلا يداعب تلك الاشجار والاغصان امثال الماء الهادي تحت سيقان الاشجار.. احس الطائر بالراحة والطمأنينة.. أخرجت الفراخ رؤوسها واخذت تنظر الى الجو مرة والى وجه امها مرات.. وفجأة سأل زغب امه هذا السؤال... - يقولون ان الطيور الكبيرة تهاجر الى مكان بعيد .. تعبر البحار والمحيطات والصحارى كطير الرهو.. والغرانيق، الحبارى ... وغيرها .. فمن أين اتى هذا النسر الذي كان يريد الفتك بك وبنا يا امي؟ هل جاء من بولندا؟! هل جاء من روسيا؟! ام جاء من قطر ما من شرق اوربا؟! إذن هو وأمثاله شذاذ آفاق.. ضحكت الام في سرها.. ثم سألها زغب آخر.. - أما انا فسؤالي لك: من أين جاء هذا العقاب الذي صرع هذا النسر الدميم؟! هل جاء عابرا الصحراء الكبرى؟! هل جاء من وادي جيزان وبيشة؟! ام جاء من جنوب الجزيرة العربية والجاً بوابة باب المندب..؟! مازال النسر يتخبط، يخبط الارض بجناحيه وريشه يتطاير.. يحاول ان يقف على قدميه ولكن هيهات.. لقد تطاير يافوخه وتناثر حوله على الارض. وعندما اطمأن الطائر وصغاره، اخذوا يرددون أهازيج الفرح ويرسلون أشجى الألحان.