محمد ومحمود لم يتجاوزا السادسة عشرة بعد، قابلناهما عند منطقة الشراب التي تبعد نصف الساعة عن مدينة المجلد معقل قبيلة المسيرية وعاصمتهم التاريخية، فالصبيان المنتميان الى قبيلة المسيرية الفيارين كانا في طريق عودتهما من المصيف بجنوب البلاد في رحلة عمرها قدراه بأكثر من ثلاثة شهور، وكانت علامات السعادة والرضاء تعلو جبينهما، سألتهما عن أبيي وما يذاع الان حولها من مواجهات وحرب كلامية وأبديا عدم اهتمامهما بالامر واشارا الى انهما لا يهتمان بالامر فهما بالمرحال الشرقي والمنطقة لا تمثل ارض المعركة التي تخصهما قبل ان يضيفا بانهما يملكان ارضا اخرى للصراع طرفها الآخر قبيلة النوير بولاية الوحدة بانتيو. حسنا.. نحن الآن في أرض المعركة التي لا يعلم احد ميعادها، لكن الجميع متفق على أنها تطرق على الابواب وبشدة، فمحمد ومحمود العائدان نحو الديار كما يقولان ربما تصبح تلك العودة هي الاخيرة ويصعب دخولهما مرة ثانية عندما يحين الصيف في العام المقبل، وهذا هو المصير الذي يهدد كل قبائل المسيرية بمختلف مراحيلهم، وينذر بانقراض ما يقدر بثلاثة عشر مليون رأس من الماشية معاشها مكتوب في رحلة بندولية تبدأ شمالا ولا تنتهي جنوبا طوال شهور العام. الآن أنا بالمجلد التي وصلناها بعد أن غطاها الظلام، لا شيء ينذر بأن هذه المدينة يقطنها من يملكون بوصلة الأيام القادمة، ويثيرون التوتر داخل كل مؤسسات العالم ومراكز نفوذه، فالصمت والهدوء يسيطران على شوارع تلك المدينة، ورغم الإضاءة التي تنتظم اغلب شوارعها الا أن ذلك لم يحرك السكون المخيف.. العربات تتحرك فوق شارع ترابي معبد يمر بوسط المدينة، وبجانبها عدد ليس بالقليل من الركشات، وعلى جنباته يسير شباب جلهم لم يتجاوز العقد الثالث من العمر دون ان يحدثوا صوتا، هذا هو المشهد الاول عند لحظة وصولنا عقب عشر ساعات قضيناها بالطريق الممتد من مدينة الابيض تاركين كل شيء خلفنا.. الاسفلت وآبار البترول وشبكة الاتصال التي غابت مثل البقية، تاركةً لنا وعورة الطريق وقسوته. لم ننتظر بالمركبة التي كنا نستغلها كثيرا بعد وصولنا، فاحد أبناء المسيرية بالمجلد يدعي علي المهدي الشهير ب «علي كانجي» هو من كان باستقبالنا، وأبلغنا أن ناظر عموم المسيرية مختار بابو نمر وجمع كبير من الأعيان ينخرطون في اجتماع مهم بالنادي الثقافي، وزاد بأن الغرض من ذلك الاجتماع وضع اللمسات النهائية للتظاهرة التي سينظمونها عند صباح الغد «أمس الأول» لتسلم مذكرة لممثل الاممالمتحدة بالمنطقة، وعبره للاتحاد الاوروبي والافريقي وشركاء الايقاد، انطلقنا الى النادي الثقافي قبل نهاية ذلك الاجتماع بدقائق، وتحدثنا الى من كانوا بداخله، الا انهم رفضوا مجرد التلميح بما تحمله المذكرة المراد تسليمها، لم نجادل كثيرا واكتفيا بما نقلته لنا المصادر، وفضلنا الذهاب الى المكان المرتب للنزول والاقامة في انتظار يوم بدأت مظاهره تتضح من حركة وتوتر المنظمين، فالكل يأمل أن تكون المظاهرة بحجم القضية التي يتحدث الجميع عنها دون مقدمات. ربما لم يكن صباحنا الاول بالمجلد كما كنا نظن، فالمدينة التي كانت لا تتنفس عند قدومنا بدأت منذ شروق الشمس تغلي كالمرجل، كل واحد يتحدث عن أبيي، حتى اضحت المفردة الاكثر تكراراً في تلك المنطقة. التاسعة الا ربعا كنت اتجول بسوق المدينة، الا ان أمراً غير عادي لفت انتباهي، فالمحلات التجارية لم تكن جميعها مفتوحة، وحتى التي بدأت تشرع ابوابها لم يمر كثير من الوقت حتى أعادت اغلاقها مرة ثانية، توقفت عند متجر لبيع الصحف اليومية، وهي للعلم تأتي بشكل يومي وبانتظام.. هذا ما قاله لي صاحب المحل، عبر الطائرات التي تأتي لمناطق البترول، لم يكن محل الصحف بلا حركة عند تلك الساعة، فهناك عدد من الشباب متجمهر بالقرب منه يتناقش حول أبيي وما يمكن فعله.. لم اتوقف كثيرا فالمدينة بأكملها تتحدث عن أبيي وتضع سيناريوهات لما يمكن حدوثه. ٭ البنوك ودواوين الحكومة: لم تكن البنوك ودواوين الحكومة استثناءً، فهي بدورها كانت موصدة الابواب على الرغم من عدم وجود قرار حكومي بذلك، لكن القبيلة هنا تعني الكثير، فعند مرورنا بجوار مكتب الضرائب بالمنطقة كان احد الموظفين يرفض إغلاق المكتب بحجة عدم وجود امر محلي، لكن احد اعيان المسيرية يدعى دينق بلايل لم يعر ذلك الاحتجاج ادنى اهتمام، وخاطبه قائلا «نحن البنوك اغلقناها» واردف: «عن أي ضرائب تتحدث فأهل البلدة لديهم مسيرة» بعدها خيم السكون على كل السوق وتحولت أبيي الى مدينة تسكنها الاشباح. ٭ التظاهرة: ألف ويزيد من الرجال والشباب والطلاب من الجنسين يتقدمهم ناظر القبيلة مختار بابو نمر وأعيان وعمد القبيلة، جلهم كانوا يهتفون بهستريا وبصوت واحد «لا استفتاء بلا حدود» ويحملون لافتات كُتب عليها «حدود 1956م هي الأصل» وتحركوا صوب مبنى الأممالمتحدة بالمنطقة التي كانت تحرسها قوة من الشرطة قوامها لم يتجاوز العشرين جنديا يحملون بعض العصي والغاز المسيل للدموع، لكن كان هناك أمر شبه معروف للجميع بأن الأمور لن تحملهم على استخدام العنف، ورغم أن مكان التجمع يبعد كثيرا عن مقر الاممالمتحدة، إلا أن الجميع كان حماسه عاليا بشكل ملحوظ. ٭ إنذار أخير: بعد أن تم تسليم المذكرة وإرسالها من بعد ذلك الى كل مكاتب الاممالمتحدة، خرج أعيان المسيرية لمخاطبة الحشود التي كانت تنتظر بالخارج، وطالبوهم بالتوجه الى مكان التجمع، وهناك لم تكن كلمة الحرب جزءاً من الكلمات والمفردات التي استخدمها كل المتحدثين، إلا أن نذرها كانت التفسير الأول لكل كلماتهم، فأمير القبيلة مختار بابو نمر قال إنهم يتيحون للحكومة الفرصة الاخيرة قبل أن يعلن قبولهم بمقترح الحكومة الاخير بتحويل البلدة لمنطقة تكامل. وكشف في حديثه للمحتشدين أن الحل لن ينتظر كثيرا، فقط شهور هي التي تفصل بين المسيرية وارض اجدادهم أبيي. واضاف انهم لا يريدون اللجوء للخيارات المعروفة التي يمكنهم أن يستلموا بها أبيي اليوم قبل الغد، لكنهم يمدون أياديهم حتى يفسحوا المجال للتعايش السلمي والأمن والاستقرار، وبدوره ردد عدد من الأعيان ذات الحديث، وأكدوا رفضهم للتهديدات الأخيرة التي طالبت نائب رئيس الإدارية رحمة عبد الرحمن النور بالمغادرة. ٭ رحمة يتوسط المسيرة: كانت صورة نائب رئيس الادارية رحمة عبد الرحمن النور تغطي المظاهرة، فعدد كبير كان يحملها ويردد هتافاً يؤكد أحقيتهم بأرض أبيي، ويرفض التهديدات الأخيرة. ٭ هناك بعض الرافضين: تحدثت لعدد من طلاب المدارس الذين شاركوا بالمظاهرة، ومازحتهم قائلاً: «نعمتم بإجازة مجانية»، الا ان احدهم تبرع بالحديث انابة عنهم، وقال بهذه الطريقة سنتضرر كثيرا، فالعام سينتهي ولن نكمل المقرر وهناك ممتحنون.. ابراهيم الذي سوف يجلس للثانوية في الامتحانات المقبلة قال إن الدراسة توقفت كثيرا هذا العام، فزيارة النائب عطلتها، واحتفال قبل شهور فعل نفس الشيء، بجانب الإغلاق الذي طال المدارس بسبب حساسية بالعيون أصابت كل الطلاب. ٭ النساء يقاطعن: عدد من النساء والفتيات تحدثت اليهن عقب التظاهرة الا انهن رفضن التحدث او التطرق للموضوع، وبعد محاولات مضنية كانت قادرة على كسر ذلك الصمت، اتضح ان رفضهن نابع من إحساسهن بأن الأمر به الكثير من المهانة والذلة، فسلافة بابو وهي حفيدة الأمير بابو نمر قالت إن الأمر لا يعجبها، فالحديث عنه الآن فيه شيء من المذلة لقبيلتها وعشيرتها، لافتة الى انهم يملكون الارض منذ زمن، واليوم يبحثون عنها بأيدي الآخرين على حد قولها وفي المقابل اشار عدد من النسوة الى انهم كانوا من قبل شهور يعملون من اجل تنظيم مسيرة، الا ان الحكومة رفضت الأمر وقامت بطرد الاعلاميين ومراسلي قناة «الشروق». واضافت احداهن بأنهم حاولوا الخروج من قبل صدور القرار، حتى يكشفون للعالم الحقائق ويعرضون أزمتهم ولكنهم مُنعوا، وها هم اليوم يتظاهرون. ٭ عوني الخصاونة: لا أحد يجهل ذلك الاسم صغيرا كان او كبيرا، فكل من يمشي على ارض المسيرية يحتفظ بسيرته الذاتية وموطنه، فالكل يردد أن الخصاونة هو من انصف المسيرية ووقف بجانبهم، عندما خالف قرار المحكمة حول نزاع الأرض في يوليو من العام المنصرم. المجلد التي ضاقت شوارعها بالأمس من حشود المسيرية، عادت عند منتصف النهار الى سكونها مرة ثانية، ولا أحد يعلم متى تخرج منه في المستقبل، الا أن المسيرية باعتبارها قبيلة سنحكي الكثير عنها في الايام القادمة، فهناك رجال يعشقون الحرب مثل عشقهم للسلم، فقسوة الطبيعة جعلت منهم أناساً مختلفين، فهم يقابلونك بكل الترحاب وفي ذات الوقت يقصون عليك حروبهم التي خاضوها، لتحتار في تلك الشخصية التي يغطيها التسامح ويميزها الجلد، وبكل اختصار أنا بين رجال يعشقون الحياة والأرض، وتكسو وجوههم ملامح الصرامة لكنهم طيبون وكرماء كتبت عليهم الطبيعة أن يمتهنوا الحروب.
