نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في العدد (11406) الصادر يوم الجمعة الموافق 19 فبراير 2010م، استطلاعاً للرأي تحت عنوان : (هرباً من الضجيج والتوتر . . ألمانيا 20% من سكان المدن يودون المغادرة إلى الريف)، الذي أجرته كبرى شركات العقار الألمانية «إيموفليت» بهدف رسم سياستها العقارية المستقبلية حيث كشف الاستطلاع عن رغبة 20% من الألمان في الهجرة من مراكز المدن الكبيرة إلى المدن الصغيرة والقرى في الضواحي عدا نسبة مماثلة قالت إنها محكومة بالسكن في المدن الكبيرة (رغم أنفها) بسبب ظروف العمل . وفيما يخص أسباب الهجرة من المدن إلى الريف قالت نسبة 58% أنها تفعل ذلك هرباً من الضجيج واعتبرت نسبة 47% أن الزحام والحياة المعقدة والمتوترة في المدن هو سبب نفورها من مراكز المدن الكبيرة وفي حين يفضل 32% الريف على المدن بسبب الغلاء وخصوصاً الإيجارات، وذكرت نسبة 28% أنهم يودون أن يكونوا أقرب ما يكون إلى البيئة، وخلصت الشرق الأوسط إلى أن نظرية الهروب من المدن بسبب معدلات الجريمة العالية ما عادت تصح لأن الراغبين بالهجرة لهذا السبب لا يتعدون 20% ، وتغلبت البيئة على الخوف من الجريمة حينما ذكر 28% أن الريف أفضل لأطفالهم بعيداً عن الضجيج وزحام المرور وأمراض المدن . وبالطبع لا مقارنة بين ما يتمتع به الريف الأوروبي الذي يشد الألمان الرحال إليه هرباً من جحيم المدن وضوضائها وما يحظى به الريف السوداني من تهميش وإهمال بل أن اغلب المدن السودانية الكبرى ما هي إلا نتاج تجمعات قروية زحف إليها الريف بمراحه ودوابه ومنازله المبنية بالطين والقش وثقافته القروية . . إذ لا تخلو بعض مظاهر الحضارة في العاصمة المثلثة وحواضر الولايات من تشوهات وتعديات الأنماط الريفية ويلاحظ ذلك في تنظيم الأسواق وطرق عرض البضائع في المتاجر وغيرها من أنماط الحياة الشعبية والريفية التي اتسمت بها المدن السودانية نتيجة للهجرة المتواصلة من الريف إلى المدن، بسبب ضعف معالجة ظواهر الجفاف والتصحر وانعدام التنمية الريفية و إهمال التخطيط الاستراتيجي وضحالة الثقافة الإنتاجية لدى المجتمع . ومهما يكن من شيء فإن هناك فرصة لتوظيف الاستثمار العربي والأجنبي المتدفق نحو التنمية الزراعية والصناعات التحويلية بأرض المليون ميل مربع في جعل خيار الريف خياراً جاذباً من خلال مشروع النهضة الزراعية الذي يجري تنفيذه رغم تغول أصحاب نظرية «الزحمة فيها الرحمة» المتمسكين بزراعة شوارع «الزلط» بالحديد (مركبات النقل) وتحديات غرس الثقافة الإنتاجية فقلما تجد سياسياً يمتهن الفلاحة أو يمارسها كهواية في عطلة نهاية الأسبوع بقدر عشقه لتصدر المنابر والخطب ، وقد أدت السياسات الزراعية الخاطئة فضلاً عن انعدام القدوة إلى انهيار الإنتاج في مشروع الجزيرة لدرجة تحسر كاتب العامود الشهير «حاطب ليل» الدكتور عبداللطيف البوني على مآل القادمين من الأرياف بقوله : (حليل زمن الضيف الذي يدفع الباب بكوعه) !! .