ارتبط الإنسان السوداني البسيط بارضه وحفظ علاقاته الاجتماعية مع من يجاوره في المسكن والعمل، ومن خلال دورة التفاعل اليومي بين الناس تنشأ الهفوات والاخطاء التي تتضخم سريعاً للتحول الى مشكلات عويصة تعصف بكيان المجتمع، على ان الشعب السوداني تميز بقدرته على حل المعضلات التي تواجهه من خلال المحاكم الشعبية التي قل نظيرها في العالم، «الصحافة» استرجعت وقائع المحاكم الشعبية في رتق نسيج المجتمع. سيادة القانون وقدرة المحاكم على تحقيق العدالة تعتبر احد الملامح الحديثة للدولة في السودان، وطور الحكم الانجليزي والحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال نمطاً موازياً للمحاكم يعرف بالمحاكم الشعبية التي تستمد قوتها من خصوصية المجتمع السوداني التي تعلي من قيمة الجهود والاعمال الاهلية في كل مناحي الحياة، ولأن المجتمع مدين في تطوره الى قوة التعاضد القبلي التي تحتضن افراد القبيلة وتوفر لها سبل كسب العيش، فكان لزاماً أن تسيطر القبيلة على تفلتات أفرادها صوناً للعلاقات المتجذرة مع الآخرين، لذا نتج عن تلاقح الاعراف الاجتماعية مع السلطات القضائية أن باتت للمجتمع ادواته الخاصة لحل مشكلاته، ويرى العديد من القانونيين ان الاعراف الاجتماعية تختلف من منطقة الى اخرى، ويحتاج فهمها الى اشخاص لصيقين بها، لذلك تطلب الامر انشاء محاكم شعبية تستند الى معايير القضاء لتأتي احكامها في نفس سياق تحقيق العدالة التي تعمل عليها السلطة القضائية. ووفقاً لعدد كبير من الريفيين حيث تسود قوة المحاكم الشعبية فإن تلك المحاكم وفرت عليهم مشقة التقاضي في المدن التي تتطلب ذهابهم إليها عدة مرات في الشهر، مؤكدين أن قضاة المحاكم الشعبية المختارين من نفس بيئة التقاضي لديهم مقدرة كبيرة على حل المعضلات المتشابكة للقرويين، مشيرين إلى أن معظم المشكلات تعود الى مشكلات الارض وحيازتها وتحركات الماشية وما تحدثه من اتلاف لممتلكات الآخرين، ويوضح بلال عبد الله احد مواطني ريفي كوستي انهم يجدون اليسر في التفاهم مع قضاة المحاكم الشعبية، مشيراً إلى انهم يستخدمون نفس لغتهم اليومية، مؤكداً امتلاك قضاة المحاكم الشعبية حس الحكمة والعدالة لحل المنازعات، ويكشف بلال أن المحاكم الشعبية تتميز بعد إصدارها للاحكام بعودة الصفاء بين الخصوم، مضيفاً: «بعد اصدار الحكم نرجع لبعض احسن من زمان» مشيراً الى قدرة المحاكم الشعبية على عودة الصفاء بين المتخاصمين، وهو ما يجعلها مصدر فخر لهم. العديد من قضاة المحاكم الشعبية اتصفوا بالقدرة على تحقيق العدالة وامتلاك الحكمة وسرعة البديهة، ولعل اشهر قضاة المحاكم الشعبية في السودان القاضي ود نواي الذي اشتهر بمحكمته في مدينة كوستي وما جوارها من ارياف، ولعل قصة فصله بين متنازعين حول بقرة بعد جلب كل خصم شهوداً على امتلاكها تعد احد الدلائل على الفطنة والحكمة، فقد طلب من هيئة محكمته الانتقال الى ميدان الحرية الشهير بالمدينة وطلب من كل خصم مناداة بقرته اليه باسمها او اللحن الذي يناديها به، وكان ان توجهت البقرة الى مالكها الاصلي، ولم تنس نغمة صوته بعد عدة سنوات من وجودها مع الخصم الآخر. والمحاكم الشعبية في بعض المناطق تعقد جلساتها تحت ظلال اشجار اللبخ او النيم او التبلدي حسب المنطقة التي يشيع فيها هذا الصنف من الأشجار، وبعض المحاكم الشعبية تعقد في يوم معين من أيام الاسبوع بالتزامن مع أحد ايام السوق المتجولة، ولعل محكمة ادارية «ابو ركبة» بمحلية تندلتي اشهر تلك المحاكم التي تعقد جلساتها كل يوم ثلاثاء تزامناً مع سوق ابو ركبة الاسبوعي الذي يجمع جميع قبائل الجمع والجوامعة والشنابلة بالنيل الابيض وكردفان. والشاهد أن قضاة المحاكم الشعبية كانت روحهم الخاصة سبباً في تحقيق العدالة، إلا أن الهجرة الكثيفة من الريف إلى المدن وتوقف معظم المشروعات الزراعية عن العمل كان له أثره البالغ في عدم انتشار المحاكم الشعبية.