كنا قد غادرنا المجلد ومن هناك بعثنا لكم برسالة أولى من حكايات المسيرية ،الآن نحن في طريقنا الى أبيي ، وقبل وصولنا اليها بساعات كنا في المرحال الاوسط طريق المسيرية التاريخي الى البلدة المتنازع حولها لكن وصولنا اليها يستغرق ساعات ومراحيلهم لابد لها من أيام وليالي. تبقت لنا حكايات في مدينة المجلد وهي مدينة ليست غريبة تشابه كل مدن غرب السودان كما انها ساكنه تماما وذات حركة محدودة .ليس هناك ما يدل على ان سكان هذه المدينة هم من يتوعدون باشعال الحرب مرة ثانية . ملامحها قديمة وعتيقة. مواطنوها لايحبون السهر ،نساؤها لايمكن رؤيتهن في الطرقات ، سوقها تسيطر عليه الاجهزة الالكترونية ، الكل يتحدث عن السياسة شباب ورجال كهول وبعض الصبية ايضا لكن ما يمكن تميزه ان حديثهم عنها ليس ذا جذور قديمة . فالارض التي تعني الكثير لابناء المسيرية الذين تحدثنا اليهم هي التي حملتهم لمتابعة تقلبات الساحة السياسية هذا ما تقوله كلمات كل من التقيناهم يومي الخميس ونهار الجمعة باكمله على بعد كيلو مترات من بلدة أبيي ، قدرها المسيرية المنتشرون بعدد الايام واتفقوا قبل ان يخبرونا بانها تصل في كل الاحوال الى خمسة عشر يوما سيرا على الاقدام وفوق ظهور الدواب . لن نخوض الآن في ما يخيف الكثيرين فالتاسع من يناير لايعني سوى مهدد آخر يضيفه مريدي محمد بخيت الذي التقيناه، فبين اشجار غابة كثيفة فهو ظل يقطع الارض خلف ابقاره لمدة 17 عاماً مصيفه في عمق الجنوب خريفه شمالا بمنطقة «بطيخ» التي فارقها قبل ايام من لقائنا له ، سبعة عشر عاما من المسير بحثا عن الماء والمرعى فقط ولا شئ سواه. قاطعته في بداية الحديث « انت تملك الآن الكثير من الابقار ويمكنك ان تبيع جزء منها لتشتري عربة تريحك من رهق السير وتقلل المخاطر « مقاطعة كادت ان تفسد ذلك النهار وتعكر مزاج مريدي لولا تدخل شقيقه الاصغر عبدالرحمن محمد بخيت القادم من المجلد برفقة ابن خالته عمر فضل لقضاء بعض الوقت مع الاسرة التي فارقوها بعد دخولهم للمرحلة الثانوية بمدرسة المجلد ، فالمسيرية حسب ما اخبروني لهم تقاليد وحياة تحكمها قوانين افرزتها الطبيعة الكل هم افراد بالمرحال الذي لا يمنعك عن مرافقته سوى التعليم لكن العودة الى السير حتمية تتحكم فيها مواقيت الاجازة الصيفية . حسنا لنعد الى عبدالرحمن وابن خالته عمر واللذين لولا تدخلهما لما تحدث مريدي مرة ثانية فهم اخبروني سريعا ان اكثر الاشياء التي تغضب المسيري هو دعوته لبيع أبقاره ، وقبل ان نعود الى حديث مريدي وآخرين كانوا يحطون بالبادية التي تحاصرها جموع من الابقار يصعب حصرها ويقطعون صمتها برقصة المردوم . سألت عبدالرحمن وعمر عن كيفية تحديدهما للمكان الذي تقيم فيه اسرتيهما بين غابات تغطيها اشجار كثيفة وتغيب عنها تغطية شبكة الهواتف النقالة ، اجابوا بانهم يحفظون الطريق ويعلمون بالميقات الذي يمكن ان يجدوا فيه اسرهم ، فالصبية الذين لم يتجاوزوا العقد الثاني بعد أن قالوا بانهم قضوا داخل هذه الغابات سنوات الطفولة وايام المراهقة الاولى وارضها تحتفظ بذكريات الاصدقاء ومواسم الافراح التي عاشوها وباطنها يرقد فيه من فارقوا الحياة وألبسوا عشبها الأخضر لون الحداد . حديث وحكايات مدهشة يرويها المسيرية عن فكرة الارض والابقار التي تعتبر محور ثقافة بداخلها فصول وفصول. الآن نعود الى مريدي فهو في العقد الثالث متزوج من احد فتيات المسيرية والآن زوجته حبلى لكن لا احد يمكنه ان يحدد الارض التي يمكن ان يخرج فيها مولودهم فحياتهم لاتعرف السكون الا قليلا ، هكذا اخبرني واضاف بعد ايام من الآن سنصل الى قرانا قرب أبيي وبعدها سنتحرك نحن الرجال والشباب خلف الابقار جنوبا حينها يستقر النسوة والاطفال وبعض الكهول والشباب ليقوموا بالزراعة ، لكنه استدرك قائلا لن نصل الى الاراضي الجنوبية التي كنا ندخلها قبل التوقيع على اتفاق السلام فالاوضاع باتت غير مستقرة وفيها الكثير من المخاطر خلال الخمس سنوات الماضية ،مخاطر لا يحملها مريدي للمواطنين الجنوبيين ولكنه يشير الى ان من يهددونهم هم العسكريون وليس ابناء الدينكا الذين يحتفظ لهم بذكريات جميلة ، حديثه الاخير تكرر كثيرا داخل المجلد فالكل هناك يحمل السياسيين و العسكريين تدهور الاوضاع بين أبناء المسيرية ودينكا نقوك وينادون بايام جسدتها صورة تجمع بين الناظر بابو نمر والسلطان دينق مجوك لوح بها احد اعيان المسيرية يدعي دينق بلايل امام عدسة الكاميرا مطالبا بالرجوع لتلك الايام التي حصد منها سلاما وامنا واسما هو عنوانه الآن فدينق بلايل سمي على سلطان دينكا نقوك الشهير ، وكذلك محدثي مريدي سمي على مدينة الجنوب الساحرة التي تبعد 300كيلو من عاصمته جوبا ، فهو الآن ينظر الى الماضي وايامه التي حكي عنها بشئ من الاعجاب لكنه يجزم ان الايام القادمة هي الاكثر جحيما و قال « نحن لا نملك شيئاً لنوقف الجحيم الذي ينتظرنا ،الانفصال يعني قلة العشب والماء والدخول جنوبا يعني تعرض الحياة للخطر « كنا في السابق نترك عددا من ابقارنا التي لا تقوى على المسير عند الاصدقاء بالجنوب ونأتي بعد عام لنجدها معافاة واذا نفقت يحتفظون بجلودها كاملة، فالدينكا صادقون وتعايشنا معهم سنوات لكن الآن الكل يتربص بالكل ، حديث يحكي عن علاقات لابد من تقليب صفحاتها قبل حلول العام المقبل ، مهمة صعبة لكنها عند ذلك المسن ليست مستحيله فشعيبو بولي رحومة صاحب التسعين عاما والذي ظل صامتا يتابع الحديث بشئ من التركيز انعكاساته كانت واضحة في قسمات ذلك الوجه الذي ارهقته الكهولة، قال ان الارض هي ملك لهم لكن الصراع حولها لم يصل طوال السنوات الماضية الى هذا الحد وطالب السياسيين بالتوقف قبل اشعال الارض التي يحتفظ لها بالكثير من الذكريات . لم ننتهِ بعد من بادية المسيرية ومرحالها الاوسط فحكاياتها كثيرة ومثيرة قوانينها نافذة فوق الجميع وذاكرتها تحتفظ بسنوات من التعايش تناوشته بعض الصراعات التي كانت سريعا تجد من يداويها في القبيلتين بحكمة أخبرنا عنها المسيرية وأكدها أبناء دينكا نقوك في أبيي التي نقصدها .