سبق اندلاع التمرد الأخير في جنوب السودان إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية الشهيرة «بقوانين سبتمبر 1983م»، وقد ظهرت بوادر المعارضة لاتفاقية أديس أبابا عند الجنوبيين مبكراً منذ عام 1972م، وحينها تنبأ الضابط الصغير «جون قرنق» باستحالة دوام اتفاق السلام حتى ساقته الأقدار لقيادة المتمردين واستغلال ورقة الشريعة في الحصول على الدعم الغربي والكنسي العالمي ولم تكن إسرائيل بعيدة عن تأييد المتمردين، فقد اعترف قائد «الأناينا» السابق «جوزيف لاقو» في لقاء له مع قناة «أبوني» بتلقي الدعم الإسرائيلي بالمال والسلاح . استغلت الشريعة الإسلامية وخاصة بعدما شاب تطبيقها الكثير من القصور والتجاوزات إبان العهد المايوي فيما عرف وقت ذاك «بالعدالة الناجزة» وكان موقف الحركة الإسلامية المؤيد لتطبيق الشريعة على طريقة الرئيس جعفر نميري رغم تجاوزاتها البينة قد ألقى بظلاله السالبة على التجربة، حيث أبان السكوت عن التجاوزات المايوية عن انتهازية سياسية لدى الإسلاميين وكشف عن عورات كثيرة في الفهم وبرامج انزال قيم وشرائع الدين الحنيف على واقع الناس المعاش، وظل النهج البراجماتي في التعاطي السياسي سمة لازمة لقيادة الحركة فبعد أن أيدت إعدام محمود محمد طه صدرت الفتوى بسقوط حد الردة وجرى تبنى جل أطروحاته !! . تقدم تحالف القوى العلمانية المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي بطرح قيام السودان العلماني الموحد ولم تكتف الحركة الشعبية بذلك بل أدرجت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان «بحدوده القائمة في أول يناير 1956م» في صلب مقررات مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا 1995م،وبهذا قررت الحركة الشعبية مصير الحكم في شمال السودان كما ضمنت حق الجنوبيين في الاستقلال، ثم ما لبثت أن أدارت الحركة الشعبية ظهرها لكل هذه التنازلات المجانية وذهبت للاتفاق مع حكومة المؤتمر الوطني في مشاكوس على قيام دولة واحدة بنظامين إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب في الفترة الانتقالية التي تنتهي باستفتاء الجنوبيين على حق تقرير المصير بعد أن يجتهد الشريكان في جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً . والاحتجاج بدفع تطبيق الشريعة الإسلامية للجنوبيين نحو خيار الانفصال غير ذي موضوع ومحاولة للتنصل من اتفاق السلام وبرتوكول مشاكوس الذي شكل خرقاً أساسياً نحو السلام والاستقرار وفق تنازل متبادل قبلت فيه الحركة الشعبية تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال مقابل حصولها على حق تقرير المصير للجنوب،والنكوص عن الاتفاق يعد انتحاراً سياسياً للشريكين فلا المؤتمر الوطني يقدر على التراجع عن الشريعة ولا الحركة تستطيع إسقاط حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم وان أرادت الحركة الشعبية تأسيس السودان الجديد وحل النزاع بتسوية دائمة وعادلة عليها القبول بما يقرره الشماليون لأنفسهم من نظم أما التطلع لوحدة تأتي بالابتزاز فليس لها من مقومات البقاء والاستقرار غير الاستقواء بدعم الخارج الإقليمي والدولي .