بحسب البروفيسور عثمان جمال الدين في كتابه «ظل الظلال» واستنادا على مأساة الشاعر صلاح عبد الصبور «ولد المثقف من رحم الحياة ليعطي الحياة معنى الوجود.. والوجود في افق المثقف هو أن يموت موته ويرفض رفضه، وان تعلو قيمه على قيم الساهل والتافه والمتكرر». ويجئ دائما وعي المثقف من شاطئ الحزن ليعيد قراءة هذا الحزن بغية مزجه في مزن الصدام والطموح، ويعلو به حتى يغدو الحزن فرحا ممكنا. انه فيروس المعرفة بروفيسور عثمان جمال الدين، الذي جعل شاعرنا اليوم مع الشاعر الهادي آدم في انطلوجية الشعر العربي مع أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وبلند الحيدري ونازك الملائكة، وهو صاحب رحلة في عيون بلادي، إنه الشاعر محمد الفيتوري الذي ولد في السودان في عام 1936م. ويقول ليعون بلاده: فجأة تحت سقف الظهيرة كأماة خائفة تطفئ الشمس قنديلها ثم ترحل في العاصفة راحل في عذابي أنا مثلما ترحل الشمس في رحم العاصمة راحل في عيون بلادي وهذا استهلال لهذا الشاعر العذب المفردات الفيتوري، الذي ظل يكتب الشعر لنصف قرن من الزمان، وله مؤلفات منها «أغاني إفريقيا» الذي نشره في عام 1955م، وتوالت اصدارته الشعرية «اذكريني يا إفريقيا» و«معزوفة لدرويش متجول» و«أقوال شاهد إثبات» و«شرق الشمس غرب القمر» و«عريانا يرقص في الشمس» و«ابتسمي حتى تمر الخيل». وقد شكل الشاعر الفيتوري حضوراً في خارطة الثقافة السودانية، وقد كان مهموما بإفريقيا ويريد أن يراها متقدمة، وينشد لها حياة العزة والشموخ وينشد: إفريقيا استيقظي استيقظي من حلمك الأسود قد طالما نمت ألم تسامي وأجمل ما كتب الفيتوري قصيدة رائعة سجل فيها بطولة السلطان تاج الدين في دارفور، ووقوفه أمام المستعمر الفرنسي: يا فارس... سرج جوادك ليس يلامس ظهر الأرض وحسامك مثل البرق يخترق الظلمات يا فارس.. مثل الصقر إذا ما انقض بيتك عالي الشرفات نارك لا تخبو لا تسود وجارك موفور العرض يا فارس.. حتى مات كان السلطان يقود طلائعنا نحو الكفار ها هم قدموا يا تاج الدين فانشر دقات طبولك ملء الغاب حاربهم بالظفر والناب وهذه الأبيات من الصور الشعرية الجميلة، وبها أنفاس الشاعر وخلجاته من خلال قناعاته ودهشته بالسلطان تاج الدين صاحب القيم والمعاني، لذلك تشكلت القصيدة كملحمة بطولية لبطل من أبطال السودان في دار مساليت، وقد سمي الشاعر الفيتوري ابنه تاج الدين تيمنا بهذا البطل. والفيتوري في حال حل وترحال في أرض الله الواسعة كما قال عن نفسه، ونجده في حالة قلق من عدم الاستقرار، وهذا القلق لديه يولد الكلمات شعرا يتشكل، وفيه البحث عن الهوية ونقرأ له: الله يا كم تغربنا وكم بلغت منا الهموم كما لم يبلغ الكبر فإن أكن أمس قد غازلت أمنية حيث استوى الصمت أو حيث استوى الضجر فالمجد أعظم إيقاعاً ورب دم يمشي حزيناً ويمشي إثره القدر وتلحظ في شعره صوراً فلسفية وصوراً شعرية تضج بالمعرفة الثقافية، وتكسر حدود الوطن لتصل لحدود الإنسانية ونجده يكتب: يا أخي في الشرق في كل سكن يا أخي في الأرض في كل وطن أنا أدعوك فهل تعرفني يا أخاً أعرفه رغم المحن إنني مزقت أكفان الدُّجى إنني هدمت جدران الوهن لم أعد مقبرة تحكي البلى ويقول الفيتوري بقراءة الشاعر كنت أتصور أن وقتا سوف يجيء وسوف نكون نحن بعض بُناته ضمن من سوف ينعمون ببعض الانتصارات والأيام الحلوة فيه، ولكن ها نحن ذا حيث بدأنا وكأنا لم نخطُ خطوة واحدة الى الامام. وأنا أقول للشاعر محمد الفيتوري إن الانتصار في أن الشعب السوداني يردد كلماتك وأشعارك انتصارا للإنسان الذي جسدت أنت معاناته وأحزانه، وحملت أنفاسه وجدا وشوقا، ايقاعا ورقصا، ويكفيك شعرا قلبي على وطني: لا تحفروا لي قبرا.. سأرقد في كل شبر من الأرض ارقد كالماء في جسد النيل ارقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلى أنا ليس يسكن قبرا وقد كنت انت وجيلك تنادون بالحرية وتمجدون الثوار... وقد كتبت ايها الفنان اجمل القصيد في ديوانك «أقوال شاهد إثبات» الى غسان كنفاني: لحظة ريثما تتأملنا الغيمة الراحلة ثم تعبر باكية ريثما تتلامس أشرعة الموت فينا لحظة ثم عد أيها المتجسد في الروح عد في مخاض النهار فجوة في جدار أو شظايا انفجار او دماء تخط قصيدة عشق على مقصلة الى ان يقول عن غسان كنفاني في المقطع الاخير: حيث يحلم من صبغوا وجهك العربي ومن قتلوني... أنهم قتلوني أتمرد فيك على الموت يا وطني جاعلا منه سيفي وقنبلتي وشهادة جيلي الطعين وأعود أقاتل باسمك في ظلمات السكوت لأعلم من قتلوني إنني وطن لا يموت حفظك الله أيها الشاعر الثائر وأنت تتدفق منك الكلمات نبراسا وهاديا للأجيال الجديدة للعيش الكريم والحياة الإنسانية، لأنك من أروع الشعراء المغنين في بلادي.. وسلام عليك وعلى سولارا.