٭ إحياءً لذكرى الشاعر والناقد محمد محمد علي الاربعين، نظم المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون بالتعاون مع رابطة الكتاب السودانيين، أمسية تحدث خلالها عن الشاعر، مربياً، ومعلماً وناقداً وشاعراً.. كل من الناقد مجذوب عيدروس والاستاذ أبو عاقلة ادريس والاستاذ عامر محمد أحمد. وشرفت الامسية أسرة الراحل والاستاذ صديق المجتبى الامين العام للمجلس، وقدم كلمة رابطة الكتاب رئيس الرابطة الشاعر عبد الله شابو، وقد استهل الامسية بمقاطع شعرية قال بعدها إن هذا الاحتفاء يعني ان هناك تواصلاً بين أجيال كثيرة همها كان الثقافة والكتابة والشعر، ثم اضاف قائلاً: إن رابطة الكتاب من أهدافها شحذ ذاكرة الشباب وتذكيرهم بهؤلاء الكتاب والمبدعين الذين أسهموا اسهاماً كبيراً في تاريخ الثقافة السودانية.. ولا نقول نكتب مثل ما كتبوا أو نتبع مناهج هم اتبعوها من قبل وظهر نجاحها، لكن نريد أن نقول إن هناك من سبقنا ومازال فينا من الكتاب السودانيين والشعراء وغيرهم، وذلك بقصد شحذ ذاكرة هذا الجيل لمعرفة أن وراءه جيلا ضخما جداً من الكتاب يمكن الاستفادة منه ويمكن ان يتخذ منه موقفاً بالاستفادة او الرفض، وبناء شيء جديد، ولكن لا بد من قراءة هؤلاء قراءة جادة ونسمع لهم، وعلى ضوء هذه القراءة نستفيد منهم في ابداعنا، فخذوا ما هو حى واتركوا ما هو ميت. لكن القطيعة الجذرية مع التراث هذا هراء، لأنه لا يمكن لشجرة ان تنبت في الهواء.. لا نقول تشبثوا بالقديم أو بالجديد لأن الحياة مستمرة.. وختاماً نقول إن محمد محمد علي شاعر ضخم وناقد ضخم، ساهم في وأضاف الى لثقافة السودانية. وقد قدم الأمسية وادار الحوار فيها الناقد مجذوب عيدروس، بعد ان رحب بأسرة الشاعر محمد محمد علي ممثلة في ابنتيه إخلاص وألحان، وابن خالته عمر جماع شقيق الراحل ادريس جماع.. كما تحدث الناقد مجذوب عيدروس عن الأثر الذي تركه محمد محمد علي سواء على صعيد الشعر أو النقد الادبي، مشيراً الى تفرد محمد محمد علي والتفاته الباكر الى ضرورة الانتباه للبيئة السودانية وما يحيط بها من جماليات.. ولعل هذه الانتباهة هى التي قادت محمد المهدي المجذوب الى قراءة الشعر السوداني والبحث عن مواطن الأصالة فيه. ومن ثم قام المجذوب بإعادة النظر في مسيرة الشعر السوداني، ورأى أن المفكرين القدماء مقلدون، وكذلك من سار على نهج التجديد الشعري (من اتباع الديوان والمهجر) أيضاً مقلد.. ورأى المجذوب في مقدمة ديوان محمد محمد علي (ألحان وأشجان) أن حمزة الملك كان باحثاً عن الاصالة. وكذلك رأى في محمد محمد علي تلك الاصالة. ومحمد محمد علي كان من اوائل من التفتوا الى قضية الهوية والانتماء، وناقش مفهوم القومية وانتماء السودان، كما قاد مساجلات فكرية مع الاستاذ محمد محمد طه، وطالب بإنزال الفلسفة من السماء الى الارض. وقد كان محمد محمد علي باعثاً للحيوية في الثقافة السودانية. وجرت بينه وعدد من النقاد العرب مساجلات ومعارك حول عدد من القضايا الأدبية، ودافع عن محمد سعيد العباسي، وواجه عدداً من النقاد منهم الدكتور محمد النويهي في آرائه عن الشعر السوداني. وتميز محمد محمد علي بالاهتمام بالقضايا العامة وهو في سن مبكرة، إذ كتب مقالات كتابه (من جيل إلى جيل) التي نشرت في الصحف السودانية. وأنجز محمد محمد علي رسالة الماجستير بعنوان (الشعر السوداني في المعارك السياسية 1281 4291) وتعتبر من الرسائل المميزة، وقام فيها بدراسة الشعر السوداني، وادخل الشعر الشعبي في دراسته في الفترات التي صمت فيها الشعر الفصيح. وابدى دراية بتراث هذا الشعر، وقدم تحليلاً واستنتاجات موفقة. وتطرق مجذوب عيدروس إلى مشاركات محمد محمد علي في مؤتمرات الادباء العرب، ومهرجانات الشعر. كما أبان عن تمرده على اللغة في مقالاته ( هذا النحو لا حاجة لنا به).. هذا التمرد الذي أشار إليه الاستاذ عمر بابكر، والذي انتقل الى تلاميذه، وكان محمد محمد علي جريئاً في تناوله لظاهرة الغموض في شعر التيجاني- وهو نقد صدر عن محبة لشعر التيجاني، وان كان قد اثار اصداءً واسعة. كما تعرض إلى أن محمد محمد علي لم يدرس بعد في انجازاته في مجالات النقد واللغة والادب، واحتجاجه على النحويين والبلاغيين قبل أن تظهر فينا البنيوية بعقود.. كما أن الأمر يحتاج إلى إعادة قراءة آرائه في الهوية وفي الفكر على ضوء ما استجد من مناهج.. وثمَّن مجذوب عيدروس ما قدمته الراحلة د. فاطمة القاسم شداد من دراسة تحليلية لشعر محمد محمد علي، كما نوَّه إلى أن هناك دراسة لتنظيم سمنار نقدي حول منجزه الإبداعي والنقدي بالتعاون بين رابطة الكتاب السودانيين وكلية التربية جامعة الخرطوم، والمجلس القومي للثقافة والفنون. أ. عمر بابكر القى بعض كلمات عن الشاعر محمد محمد علي المعلم قائلاً: رغم أن محمد محمد علي الشاعر لا ينفصل عن المعلم، فهما من وجود واحد واسلوب واحد، ومن تحدث قبلي تحدث عن بعض ملامح التمرد عند محمد محمد علي في أنماط وأشياء كثيرة.. ومحمد محمد علي المعلم كنت ألمس فيه دائماً هذه النزعة وهذا التمرد، وهى من أكثر الأشياء التي افادتني في حياتي وفي عملي وأفادت الكثيرين، وخرجت معلمين ممتازين وشعراء ممتازين، وذلك نتيجة لحضورهم حصصه ودراساته ومحاضراته، لأنه كان بتمرده هذا يضع أسساً لأشياء جديدة دائماً.. وانا اعتقد ان محمد محمد علي هو أول من حاول ان يخرج بالناس في حصص اللغة العربية من نمط اعرب ما تحته خط، وجعل من تدريس اللغة العربية شيئاً حياً واعطاها وظيفتها الاجتماعية الكاملة من خلال النصوص والحوار والشعر، وخرجت حية عند كثير من تلاميذه من الذين لم يتخصصوا في اللغة العربية وانا واحد منهم، وقد تعلمت التمرد من اثنين كما ذكرت من قبل لأحد أبنائي، حينما قال لي أرى فيك تمرداً من اين اتيت به؟ وقلت له من اثنين احدهما الشاعر محمد محمد علي، فقد كان يحاول ان يخرج من الانماط السائدة في تعليم اللغة العربية ليجعل منها لغة جميلة وسليمة، وليست للاستماع وإنما للحياة، والثاني هو صلاح أحمد ابراهيم فقد سمعته يقول: كان تعب منك جناح في السرعة زيد وقد ألقت كلمة الأسرة ابنة الشاعر المهندسة إخلاص محمد محمد علي بعد تحية الحضور، وقالت: في هذه اللحظة نحيي كل الرواد ببلادي وكل اهل العطاء من الابداع وكل من اتى بمفيد وجديد، وإننا لسعيدون وعاجزون عن الشكر، وقد تعلمنا منذ الصغر ان من لا يشكر الناس على معروفهم لا يشكر الله. ولا شك ان تكريم المبدعين او نكرانهم هو أمر يختلف من امة لأخرى تبعاً للظروف الحضارية التي تعيشها الامة. ولكن هناك سمات مشتركة بين الأمم في ماضيها وحديثها.. فعندما تكون الامة قوية وغالبة فإن المبدع لا يهان فيها، وينبغي لهذه الامة ان تقيِّم مبدعيها وتقدم لهم يد العون وترعى شؤونهم الحياتية والإبداعية، لأنهم قدموا خلاصة فكرهم وعصارة تجاربهم، وساهموا في إثراء وجدان الشعوب، وأفنوا زهرة شبابهم في تقديم الفن والأدب الراقي، وهذا لا بد ان يقابله تكريم والتفاتة من أعلى مستويات الدولة. وهذا التكريم لهؤلاء المبدعين كي لا نقتل روح الإبداع والفكر فيهم.. وكذلك لا بد من الالتفات لدور ومكانة الرعيل الأول من الرواد في مجال الشعر والنقد والادب عموماً، وتكريمهم في حياتهم وبعد مماتهم، لأنهم اجزلوا العطاء وقدموا الغالي والنفيس من خلال فكرهم وإبداعهم.. وان الكلمة التي تُقال في حق المبدع هى التكريم والتقدير الذي يرجوه والفرح الذي ينتظره، وهى الوسام الذي نضعه على صدره ويفاخر به الدنيا. وفي ختام الأمسية تحدث الأستاذ صديق المجتبى قائلاً: جئت حبواً لهذا الشاعر الكبير، لأن له مكانة سامية في قلوبنا وفي قلوب اهل السودان، ولأن الشاعر محمد محمد علي لم يوصف في ما قدمه من أعمال بوصفه ملعما مربي اجيال، فهذا جانب من تاريخه يجب أن نبحث فيه ونفحصه، ويجب أن نتعمق في نظرته للتدريس وللعلم. وتحدثت عن ثورة الشاعر المجدد، ولعلي في مرات سابقة ذكرت ذلك في عدد من المقالات نشرت عام 4891 في مراجعة دفتر التراث الادبي السوداني، وتحدثت عن بعض الظواهر في الادب السوداني، ولعل التيجاني ومحمد محمد علي يلتقيان في كثير من الاشياء، وان بدت في النقد الادبي لمحمد محمد علي ثورة على بعض الجوانب في شعر التيجاني وعلى الغموض في شعره، ولكن ذلك لا ينفي النظرة الموضوعية لمحمد محمد علي في تناوله لشعراء عصره، وخاصة أن التيجاني كان شاعراً مثيراً للجدل، وكانت الموجة السائدة في ذلك الوقت الحديث عما انفتح عليه الفكر العربي من افكار وافدة اليه عن الوجود والاتحاد والحلول، والمناهج التي غزت الساحة، وقد كان ذلك لسوء الترجمة التي وفدت على الشعر العربي، وحلول الذات الالهية في مخلوق.. وكانت نظرة محمد محمد علي فاحصة، وكان واعياً جداً لهذه القضايا وهذه المصطلحات والترجمات، ولعله أشار إلى أن التيجاني مبرأ من فكرة الحلول، وهذا يضاف الى رصيده النقدي.. ومحمد محمد علي اختط مدرسة نقدية مغايرة لما هو سائد، وحاول ان يشق طريقه وحده، وهو نسيج وحدوي لم تأخذه الموجة كغثاء السيل في موجة العصر، لذلك كان متحدثاً وناطقاً بلسانه، وكذلك له الفضل في توثيق الشعر السياسي السوداني، وسجل تاريخاً سياسياً من الشعر سار على نهجه الكثير ممن جاء بعده في تاريخ السودان وكثير من الوقائع والاحداث مسجلة في الشعر، وفي ذلك اشارة الى ان الشعر السوداني لا ينفصل عن واقعه وخلجات مجتمعه وما يعتمل في وجدان هذا المجتمع، لذلك كان مؤرخاً أدبياً. وظاهرة تاريخ الأدب لم تكن موجودة بالشكل الكبير، وحتى الاطروحة التي قدمها حليم اليازجي عن الادب السوداني لم تغفل محمد محمد علي، بل اتكأ عليها في كثير مما جاء به في تلك الأطروحة.. ومحمد محمد علي بعفويته وطبعه كان اكاديمياً حصيفاً وجريئاً، وكان لا يتجاوز المنهج النقدي، وكان من النقاد المحدثين الذين جاءواً بتيار نقدي جديد وبطريقة تختلف عن أبناء عصره.. وقد كانت له أطروحة دكتوراة اختفت، وأخشى أن تكون قد غابت في أضابير الجامعات المصرية، أو قد تكون سرقت لأنه كان قاب قوسين أو أدنى من مناقشتها وإجازة الدكتوراة.. ونحن لم نعثر على هذه الأطروحة.. وإذا استطعنا أن نجد هذا المبحث لأصبح إضافة حقيقية، لأن فيها الكثير من الإضاءات في الأدب السوداني. «ورقة الأستاذ عامر محمد أحمد وورقة الأستاذ ادريس ابو عاقلة ستنشران في الملف الثقافي».