دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من اوراق الراحل الاستاذ أحمد عبد الحليم
مستقبل السودان السياسي.. «رأي وروية» «1»
نشر في الصحافة يوم 29 - 10 - 2010

قد يرى البعض ان الحديث عن مستقبل السودان السياسي أمر يقترب من الرجم بالغيب، لما يحيط بأوضاع السودان من تعقيدات مركبة تعمل فيها تناقضات الداخل، وتدخلات الخارج بنوازعها المختلفات، وما نتج عن ذلك كله من اوضاع تشبه تلال الرمال المتحركة. نعم، وقد يكون الامر اعقد من ذلك. ولكن ليس أمام من يكون مسكوناً بهموم الوطن، ويتلقى دعوة من دورية علمية وقورة للكتابة ضمن ملف تخص به السودان إلا الاستجابة.
إن أوضاع السودان الراهن وتداعياتها الظاهرة والمستترة، تدعو إلى اعمال الفكر وتحريك الوجدان اهتماماً بمآلات الوطن خاصة لدى من يكون من الذين أتيحت لهم فرصة الاشتغال بالشأن العام فترة من الزمان تجاوزت العقود الاربعة، وشاءت له المقادير أن يسهم إسهاماً متواضعاً في تكييف الأوضاع بالمشاركة الفكرية والتدابير العملية. وأن يكون شاهداً فاعلاً في غير قليل من الأحداث التي شهدها تاريخ السودان المعاصر، وأن يسعى مع الساعين بالرأي والرؤية في تصور أوضاع مجيدة للسودان، إذ يزوده ذلك كله بحصيلة من المعرفة والتجارب وليدة المعاناة، والاشقاق أحياناً. ولعل الذي يثير الإشفاق في نفسي هو رؤيتي لبعض الناس يتجاهلون البديهيات ويسعون مكابرين إلى توليد تصورات جامحة من عند أنفسهم تتجاوز الواقع والمحتمل، لرسم صورة لهذا الواقع والمستقبل من بعده، من ذات أنفسهم، ورغبة منهم في تحقيق اهداف وغايات لا تسمح حقائق الواقع وتداعياته المنطقية بتحقيقها.
ومن البديهات التي شخصت في السودان عبر تاريخه القديم والحديث، أنه يشبه مفاعلاً حضارياً اعتملت في جوفه، وماتزال تعتمل، عناصر متنوعة وترسبات تاريخية عديدة. فالسودان منذ بدء تاريخه المسجل بممالكه العتيقات وحضاراته المتتاليات مثل حضارات نبتة وكرمة وكوش، شهد تداخل ثقافات وعقائد وسبل عيش وحراكاً بشرياً تفاعلت في صنع كيانه وتشكيل وجدانه، ومنحته ميزته الكبرى ميزة التسامح الذي صار أصلاً في تكوينه ومقوماً من مقومات وجوده. إذ ما كان للسودان أن يكون وأن يتواصل وجوده لولا تحلي أهله بالتسامح والاستعداد للتعايش الذي يقبل الآخر، ويحتضن الوافد ويصوغ ذلك كله في كيان متداعٍ إلى الانسجام دائماً مهما كانت العارضات من الأحداث الأصيلة والدخيلة.
هكذا كان السودان أبداً، وهكذا المفاعل الحضاري الذي يمثله والذي ظل يفعل فعله عبر الحقب والقرون خاصة منذ أن شمخت حضاراته في ما كان يعرف بالنوبة العليا ومنطقة الأبواب في شمال السودان التي تكاملت مع ما كان حادثاً في النوبة السفلى في جنوب مصر في كيان واحد وهب الإنسانية حضارتها الاولى وأرسل اشعاعاته في الدنيا من حوله. بل أن ليوبولد سيدار سنغور قد نسب إلى منطقة الاحباش العليا للنيل، أنها قد كانت المستقر الاول للانسان. وبين شمال السودان القصي جنوب مصر وبين جنوب السودان القصي عند منابع النيل، أهلت حضارات في شرق السودان وغربه وجنوبه جاءت اضافات مشرقة إلى عناصر المفاعل الحضاري الكبير الذي صنعه البشر والجغرافيا والتاريخ في سودان وادي النيل. ولئن كان مركز هذا المفاعل قد قام في شمال السودان ووسطه، فإن حركته قد ظلت تنداح شرقاً وغرباً وجنوباً لتعانق حضارات تلك البقاع، وهكذا ظل السودان يتشكل عبر التاريخ إلى أن جاء الاستعمار الاوربي وقطع مسيرة هذا المفاعل بما أقامه من سدود في وجه حركة البشر داخل السودان، خاصة تلك المتجهة من الشمال صوب الجنوب، إذ شرع لما جعله المناطق المقفولة، أي المحجورة على تحرك الشماليين تجاه جنوب وطنهم ومنطقتي جبال النوبة والانقسنا، على حين أنه جعلها مفتوحة أمام كل وافد غريب خاصة الاوروبيين، ثم أردف ذلك بسن سياسة خاصة تجاه الجنوب هدفت إلى عزله، وادارته بصورة مغايرة لادارة بقية مناطق السودان. وكان القصد من وراء ذلك اقامة سد عريض يكون جنوب السودان جزءاً منه، يمتد في وسط القارة الافريقية وشرقها ليقف في وجه حركة مواطني شمال افريقيا إلى جنوبها خشية ان يحملوا معهم اشعاع الاسلام واشراق نوره واثر الحضارة العربية الى قلب القارة الإفريقية وجنوبها. وكان كل ذلك أصلاً في خطة الاستعمار الرامية إلى تقسيم القارة الإفريقية إلى افريقيا شمال الصحراء وافريقيا جنوب الصحراء. أما هذا السد الذي سعى الاستعمار إلى اقامته، فقد قصد به ان يضم جنوب السودان ويوغندا وكينيا وتنزانيا وروديسيا ونياسلاند اللتين صارتا فيما بعد زيمبابوي، لتغدو العروبة والإسلام حبيستي منطقة يحدها شمالاً البحر الابيض المتوسط وتقف جنوباً على مشارف ما سمَّاه العرب رباط الصحراء أو رباط داكار، لينفرد الاستعمار بوسط القارة وجنوبها ويشكلها بصورة يستعصي معها تكامل القارة لتقف موحدة في وجهه.
وكان الأمل والمرتجى وقد حقق السودان استقلاله في فاتح عام 1956م، أن تعمد حركته السياسية إلى اقتلاع الحواجز والكوابح والسدود التي غرسها الاستعمار في جوفه، ليستأنف هذا المفاعل الحضاري العظيم مسيرته فيحقق انسجاماً وطنياً يكون اداته في استثمار امكاناته الطبيعية الهائلة، ليجدد حياة شعبه، ويصنع مجد وطنه. ولكن من أسف فقد كبت جياد الحركة السياسية السودانية في مرات عديدة أمام صعاب تشكيل دولة قومية على ركام الإرث الاستعماري الذي استعصى على التغيير والتحويل زماناً قد تطاول.
مشكلات الدولة الوليدة:
من معارك النضال، وتوحد كل أهل السودان اصراراً على الحرية والاستقلال، معززاً بفاعلية الكفاح المشترك لشعبي وادي النيل، وبصيرة ثورة يوليو، ولد السودان المستقل في اول يناير عام 1956م، وكانت النفوس متطلعة إلى حرية شاملة من ربقة الاستعمار وغوائل الفقر والجهل والمرض، بل ومتحفزة إلى العمل المثابر والتضحية في سبيل تحقيق ذلك جميعاً، ولكن سرعان ما ضمر الأمل عندما تبدت المقعدات في سبيل تحقيق تلك الآمال والمطامح. وتمثلت المقعدات في الإرث الاستعماري الذي أورث الدولة الوليدة مشكلات معقدة من حيث إهمال التنمية وسوء توزيع النذر القليل الذي تحقق منها وتركزه في منطقة وسط السودان، حيث الأرض الخصبة والماء الوفير اللذين يسرا زراعة القطن مبتغى الصناعة البريطانية، وترك العديد من المناطق رافلة في قيود الفقر والبدائية خاصة جنوب الوطن ومناطق أخرى شاسعة في شرقه وغربه وشماله القصي. ولعلَّ مما زاد حدة عدم التوازن هذا في التنمية، الهجرات الواسعة صوب العاصمة الوطنية ووسط السودان الذي كان يعرف بمديرية النيل الأزرق. ولئن تحقق بعض الأثر الايجابي الراجع لتلك الهجرة في المناطق الشمالية فإن الجنوب وبعض مناطق الغرب والشرق لم تفد من آثاره لقلة هجرة ابنائها الى وسط السودان، فتنامى لديها إحساس بالغبن وكأن أهل الوسط قد عمدوا إلى حرمانهم، على حين أن هذا الوسط وإن حقق تنمية نسبية فإنه قد كان متخلفاً كذلك بفعل الإهمال الذي رزح تحته مع بقية أنحاء الوطن.
ولقد ضاعف الإحساس بالإحباط عوامل القصور الذاتي التي اتسم بها الحكم الوطني الوليد، خاصة في أدواته الاساسية، أي الاحزاب السياسية. وذلك لأنها وإن كانت طامحة للخير فإنها لم تعد نفسها لصنعه. ومرد ذلك عائد إلى هشاشة بنيتها وضعف مناهجها الفكرية وغيبة برامجها السياسية والاجتماعية والتنموية. وكثيراً ما يُحار الانسان في ما إذا كانت هذه احزاباً سياسية حقاً أو خلقاً آخر، إن التشكيلات السياسية التقليدية التي نشأت قامت على خليط جمع زمراً من المتعلمين مع مزيج من الطرق الصوفية والتركيبات القبلية. وهنا لا بد من المسارعة إلى القول إنه لا غبار على الطرق الصوفية، بل يحمد لها انها قد قامت بنشر الهدى، وأدت وظيفة فاعلة في مسيرة توحيد المواطنين باجتيازها الحدود القبلية، إذ تداعى أبناء العديد من القبائل للانخراط في الطريقة الصوفية الواحدة. كما أنه لا غبار على القبيلة التي تشكل آصرة قربى وتكافل، وكثيراً ما جمعت القبائل جهود بنيها لتخفيف مشاق الحياة ومغالبة صعابها. ولكن المشكلة قامت عندما أُريد الخروج بخصائص هذه البنيات العقيدية والاجتاعية من سياقها الأصيل القائم في جانب منه على ركائز الولاء والطاعة إلى سياق السياسة القائمة على الرأي والرأي الآخر والجدل وقوة العارضة. فكان لذلك أثران سلبيان: إذ كان السعي إلى اقامة احزاب سياسية على مبدأ يناقض طبيعتها هو مبدأ الطاعة وتلقي التوجيه واطاعته دون تدبر أو جدال، كما انعكس أثر التحزب سلباً على الطرق الصوفية والقبائل بتحويلها إلى عصبيات تساند الأحزاب، فكسب الحزب وما ربحت تلك التشكيلات الأصيلة، إذ تحولت بعض الطرق الصوفية إلى طوائف وفسدت رابطة القبيلة بالتعقيد المنساق وراء قيادات لم تبذل كبير جهد لتطوير مناطق القبائل المساندة لها. أما خسارة الاحزاب فقد تمثلت في أن بنيتها وطبيعتها قد خالفتا المعهود في نشأة الأحزاب على أساس الفكرة الجامعة والبرنامج المعبئ لطاقاتها وطاقات الوطن على جادة تحقيق الاهداف التي تجعلها غاية لبرامجها. وهكذا دخل السودان مرحلة الاستقلال وهو يحاول بناء الجديد بأدوات القديم التي تعجز عن صنعه لتصورها عن الوفاء بمتطلباته.
ولئن كانت هذه علل نشأة الأحزاب التقليدية من حيث هشاشة البنية وقيامها على الولاء الطائفي والقبلي والشخصي والأسري، الأمر الذي اضعف بنياتها وزهد ناشئة المتعلمين والقوى الحديثة في الانضمام إليها أو لجوئها إلى اقامة علاقات سطحية معها بحكم المنابت الطائفية والقبلية، فإن جماعات من المتعلمين والمنتمين إلى القوى الحديثة بحكم الاندراج في النقابات والاتحادات القائمة على الانتاج والخدمات، قد اختطت لنفسها مسارات جديدة بالانضمام إلى الاحزاب العقيدية، فكانت المبادرة للحركة الشيوعية والحركة الإسلامية، ولحقت بهما حركة الاشتراكية الديمقراطية والقومية العربية. ولقد كان للحركة الشيوعية فضل الاهتمام بالحركة الفئوية والجماهيرية، فصار لها إسهامها المقدر في الحركة العمالية وحركة المزارعين والشباب والمرأة. وكان للحركة الإسلامية وحركة القومية العربية فضل التنبيه إلى الطاقة الهائلة للعقيدة الدينية والانتماء القومي. ولما بدأت الحركتان الشيوعية والإسلامية على وجه الخصوص ركزتا على البناء الفكري والتنظيمي، ولكنهما انجذبتا إلى التركيز على الجوانب التنظيمية والحركية بدافع الرغبة في النمو الذاتي والسعي إلى ملء الفراغ الذي خلفته الاحزاب التقليدية، فتحولتا تدريجياً من مدرستين فكريتين إلى ما يشبه عصبيتين تنظيميتين، ونشأ بينهما عداء مازال يتواصل. وهذا ما يفسر استعاضة بعض الطلاب المنتمين إليهما، خاصة، بالعنف والاقتتال عن المنطق والجدل وقوة العارضة. ولعلَّ هذا ما يفسر العداء المعوق لمسيرة الوفاق الوطني الذي تقوم عليه بعض تشكيلات المعارضة وبعض العناصر المتطرفة التي تساند النظام الحاكم في السودان وتشاكسه أحياناً.
إن قصور قدرة هذه التشكيلات السياسية عن التنبه اليقظ للمشكلات الحقيقية للوطن وعجزها عن معالجتها، قد أفضى إلى تواصل مشكلة الجنوب دون حل ناجح، باستثناء الومضة التي لاحت ثم خبت في عهد ثورة مايو في أعقاب اتفاقية اديس أبابا عام 1972م التي حققت حلاً ديمقراطياً تفوضياً أقام حكماً ذاتياً إقليمياً للمديريات الجنوبية يعتبر من أشرق صفحات الحكم الوطني في السودان. كما افضى هذا العجز إلى نشأة احزاب جهوية وقبلية. ولكن اكثر وجوه هذا العجز كلفة هو إدخال البلاد في دوامة التراوح بين نظم حزبية ليبرالية عاجزة أفضت إلى انقلابات عسكرية حققت بعض الإنجاز وألفها الناس حيناً من الدهر ثم عادوا وانقلبوا عليها فعادت ذات الأحزاب إلى الحكم، وهي ما تعلمت إلا القليل من تجاربها وما نسبت إلا القليل من طرائقها وائتلافاتها واختلافاتها. وما يزال السؤال العصي على الاجابة ماثلاً أمامنا وهو: ما الذي حال دون قدرة الفئة المتعلمة في أن تصلح شأن الاحزاب أو أن تقيم البديل المعافى من علل الاحزاب التاريخية في السودان؟
ويتضافر مع الإرث الاستعماري وعوامل القصور الذاتي مُقْعِدٌ ثالث ينبغي ألا تقلل من فعله وأثره، هو التدخل الاجنبي، واللجوء إلى الاجنبي لحل مشكلات الوطن، والتآمر معه من قبل بعض القوى، بما شكل مهدداً مستمراً لوحدة الوطن وأمنه واستقراره. ولا تصرفنا عن قول هذا خشية أن نحسب في عداد المؤمنين بنظرية المؤامرة. إذ لا ايمان لنا بهذه النظرية، ولكن ينبغي ألا نخشى الجهر بالحق إذا وقع التآمر فعلاً وهدد الوحدة الوطنية. وإنه فيما علمتم قد شاع الحديث في السنوات الأخيرة عن حروب الآخرين التي تنفذها بعض الفئات الوطنية المندرجة تحت نفوذ هؤلاء الآخرين، أو الراغبة في مساندتها في وجه أوطانها. ومن البديهيات التي يدركها النظر المجرد وليست بحاجة إلى بصيرة نفاذة لادراك كنهها، حقيقة أن الدبابات والمدافع وآليات الدمار الأخرى لا تنبت في غابات الجنوب، ولا تنحدر مع حجارة تلال البحر الأحمر، وغني عن القول إن مواصلة الحرب مكلفة، وان من يتولى وزرها ونقل كلفتها لا يفعل ذلك لوجه الله، فللأجانب دائماً أجندتهم السياسية الخاصة التي كثيراً ما تتعارض مع مصالح الدول التي يدعمون الخارجين عليها، خاصة عندما يكون لدى الدولة والقوى السياسية بها اقتناع بأهمية الوصول إلى حلول عادلة للنزاعات التي تتسبب في الاقتتال. وهذا هو حال السودان الذي التقت رؤية حكومته ورؤية القوى السياسية الأساسية المعارضة لها، والشعب كله من وراء هؤلاء وأولئك راغب في حل سياسي تفاوضي عادل يقي البلاد والعباد شرور الحرب، ويمهد السبيل لبناء الوطن بعقول وسواعد كل بنيه. ولقد صار واضحاً ومعلوماً أن بعض الدول وطائفة من الجمعيات الطوعية غير الحكومية قد ثابرت في السنوات الأخيرة على إذكاء روح الحرب والقتال، وحالت دون توقف الحرب بشتى الذرائع والافتراءات على السودان وشعبه، ورسمت له صورة شائهة لا تقوم على دليل، ولا تصدقها حقائق الواقع، وتجافي ما عُرف عن أهل السودان من سجايا التسامح والإلفة وعدم الجنوح إلى الشر والكيد والبغضاء، وقد خُصَّ السودان بقدر غير يسير من المخططات التآمرية على وحدته وأمنه واستقراره، كما أثبتت الدورات المتتالية لمجلس جامعة الدول العربية الذي أصدر القرار تلو القرار شجبا لذلك التآمر ودفاعا عن وحدة السودان ومساندة لأهله ولجهود الخير التي يبذلها الأشقاء والأصدقاء لجمع شمل بنيه وتيسير الوفاق بينهم. لقد صار سجل التدخل الاجنبي في السودان معروفا وليس بحاجة الى كبير جهد لاقامة الدليل عليه، فكم من جهة أجنبية قد اعترفت، وبعضها علنا، بمساندتها لحركتي التمرد الاولى والثانية، بل أن بعض قيادات الدول الغربية قد أعلنت على رؤوس الاشهاد أنها ستساند كل من يسعى الى تغيير نظام الحكم السوداني بالقوة. كما أن بعض دول الجوار شاركت أحيانا في المخططات الاجنبية التآمرية على السودان، فأقامت قواعد التدريب للمحاربين الذين يشهرون السلاح في وجه وطنهم ووجه قواته المسلحة. وإذا كان السودان قد أصاب نجاحا في إعمار علاقاته مع بعض دول الجوار، فإن غير واحدة من هذه الدول ما تزال تحتضن الجماعات المقاتلة وتقدم لها الدعم والسند. بل ثبت أن بعض هذه الدول قد شاركت عمليا في بعض معارك شنتها تلك المجموعات داخل الاراضي السودانية. وصلة اسرائيل مع حركة التمرد غير خافية ولا منكرة. فهل يجوز او يصح بعد هذا الذي سقنا جانبا منه أن ينكر علينا بعض الناس من أبناء وطننا وسواهم أن نتحدث عن التدخل الاجنبي في شؤون بلادنا حتى بعد تحطيم صواريخ كروز الامريكية لمصنع الشفاء المنتج للادوية؟! ان هذا التدخل حقيقة، وانه اليوم يسعى لعرقلة جهود الوفاق الوطني، ويحاول تعطيل المبادرة المصرية الليبية المشتركة للوفاق الوطني السوداني، ويقيم العراقيل في وجه التنسيق بينها ومبادرة الايقاد. وبعض هذه الجهات تساند الموقف الخاطئ الذي تتخذه بعض قوى المعارضة القائم على رفض وقف إطلاق النار الشامل، بذريعة أنه ينبغي أن يكون نتيجةً للوفاق وليس مقدمةً له. ويأتي هذا في وقت يتحدثون فيه عن وقف الحرب ويحاولون إلقاء اللائمة على الحكومة في استمرارها. إن مثل هذا المسلك ليصادم العقل ويصدم الوجدان السليم، استراتيجيتان متصادمتان: إدعاء كاذب بالحرص على إيقاف الحرب، وإصرار مقيم على عدم وقفها..!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.