لم يكن صبيحة الثلاثاء الاخير فى شهر سبتمبر للعام «1964»يوما عاديا فى حياة النوبيين القاطنين بمدينة وادى حلفا ، مشهد يصلح لعمل سينمائى ربما كان سيجنى منتجه ملايين الدولارات و المنظر هو لالاف الموطنين منهمكين في حزم امتعتهم استعدادا لمغادرة وطنهم ، حمل القطار على متنه كل ماثقل وزنه او خف وزنه ولكن ربما لم يستطع حمل آمالهم وتطلعاتهم فى بدء حياة جديدة فى ارض لم يألفوها بعد القطار المعنيُّ بالرحلة بدأت عجلاته تشق رمال الصحراء قاصدا شرقى السودان ، القطار يطلق صافرته الاخيرة ايذانا ببدء التحرك نحو الوطن الجديد، نظرات التأمل والحيرة كانت بادية على الوجوه فالامر هنا ليس مجرد سفر على أمل العودة بل يعنى الانتقال الى ارض وتاريخ جديد ومجهول لديهم ولكن مساكنهم ومزارعهم التى غمرتها مياه السد العالى لاتترك مجالا لالغاء الرحلة والمكوث فى الوطن الاصل، هجر المواطنون تاريخهم واسلافهم وذكرياتهم ولسان حالهم يقول مجبر اخاك لابطل، كانت بدايات الاستقرار بمدينة حلفاالجديدة شرقى البلاد هانئة ووادعة بفضل المشروع الزراعى الذى كان يغدق عليهم رطبا جنيا وقمحا وفولا وقطنا حتى بداية التسعينيات حيث كانت الهجرة العكسية تتوافد للخرطوم من الأسر التى استطاعت تحمل نفقات الهجرة نحو اطراف الخرطوم فيما فضل السواد الاعظم الاستقرار فى تلك الارض التى جادت بها عليهم لجنة التهجير فى تلك المنطقة التى تبعد عن الطريق القومى الذى يربط بين الخرطوم وبورتسودان حوالى «50»كيلو متر ، مضت الايام والسنوات دون ان يعكر صفوها شئ سوى صوت الرعد وهطول الامطار لانتقالهم الى منطقة جغرافية ومناخية اخرى غير التى اعتادوا عليها بحلفا القديمة حالة السكون المسيطر على سوق المدينة بعد الظهيرة قد تعطى انطباعا ان المدينة خالية ، ولكن تطاير اكياس القمامة والذباب يحيل الاجواء بينهما الى اجواء اكثر حميمية فيلتقيان فى مهام كثيرة كتلويث الخضر والفاكهة واللحوم المعروضة فى الهواء الطلق بينما تقل حركة المواطنين تماما بعد ان يحين موعد الظهيرة حيث تبدأ رحلة العودة الى قراهم عبر طرق غير مسفلتة وليست لديها القدرة على الصمود فى الخريف فيصبح موسم الذهاب الى سوق حلفا عسيرا ان لم يكن مستحيلا بسبب وعورة الطرق، فالطرق المسفلتة ليست كثيرة فى قواميس المنطقة ولاتتعدى «5»كيلومترات ومازال المواطنون بانتظار وعود انتخابية من قبل مرشحيهم بربط قرى الاسكان بطرق مسفلتة الى ان ذرات الغبار مازالت تكتم انفاس من يترحلون بسيارات صممت لنقل البضائع وبالرغم من ذلك تجد رواجا لنقل المواطنين والبضائع لتحملها مشقة الطريق وشحن اكبر عدد من الاشخاص حتى ولو تجاوزت حمولتها طاقتها التصميمية، وحينما يهرع الناس للاحتماء تحت مظلات منازلم المعروشة بمادة الاسبستوس تمد لسانها ساخرة وهى تضرب بتقارير خبراء البيئة بعرض الحائط بعد ان مل المواطنون انتظار تغييرات تطال اسقف منازلهم باسقف ملائمة للبيئة والانسان، وبينما الناس نيام تحتها تغزوهم اسراب من البعوض دون ان تترك مجالا لاتمام صلاة المغرب وان لم تمتلك ناموسية مشبعة فحتما ستصبح وجبة دسمة للبعوض المسبب للملاريا ، وحال المستشفى ظل لغزا محيرا للكثير من المواطنين فمعظم الحالات المستعصية او العادية تجد معاناة فى تلقى العلاج اللازم و لا تجد سبيلا سوى ايجار عربة اسعاف لايصالك الى الخرطوم ان كنت تستطيع تأمين المبلغ، وان كنت محظوظا فلا تمرض فى الخريف واذا استدعى نقلك للمستشفى فان عملية نقلك تحتاج الى عربة يقطرها تراكتور زراعى للتصدى للمهمة باكمل وجه وشق الطرق الطينية الضحلة لان معظم القرى تبعد حوالى «20»كيلو مترا عن المستشفى الرئيسى بالمدينة . وللكهرباء قصص كقصص غيابها الف ليلة وليلة ولاتكتفى بذلك بل تمارس عليهم شتى انواع العذاب والغياب طيلة النهار وتحل ضيفا فى منتصف الليل وترحل مع بواكير الصباح على امل العودة بعد ساعات طويلة.