تعلمت من جسدي أن أطير ومن شفتي الصفير ولا منزل.. فأفئ إلى ظله فألقي برأسي على ريشه وأنام أنا بيت نفسي سريري السهر «قصي اللبدي الأردن» جاء في المعجم «الرزنامة»: كتيب يتضمن معرفة الأيام والشهور وطلوع الشمس والقمر على مدار السنة، وادارة صرف مرتبات أرباب المعاش. و«رزم» الشيء رزماً: جمعه في حيز واحد، أو ثوب واحد. «أرزم» الرعد: اشتد صوته، ويقال ارزمت الريح. «رزم» الثياب جمعها وشدها وجعها رزما. «الرزمة»: الوجبة، وهي الأكلة الواحدة في اليوم والليلة. «الرزمة» ما جمع في شيء واحد.. يُقال رزمة ثياب ورزمة ورق وجمعها «رُزم». «قصص من الرزنامة» لبرتولت بريخت صدرت للمرة الاولى عن دار الإخوة «فايس» عام 1949م، وقام بترجمتها «بوعلي ياسين» عام 1992م، اما الطبعة التي بين يدي فهي الثانية، الصادرة عام 2000م، وهي موسعة، إذ يقول مترجمها «كانت غايتي من هذه الترجمة أن أعرف قراء العربية على برتولت بريشت قاصا، بعدما عرفوه جيدا مسرحيا وشاعرا، وقد اخذت النصوص المترجمة عن كتاب «قصص من الرزنامة» كما هو مبين مع استثناءين اثنين، اولهما انني تخليت عن الاشعار الواردة في الكتاب الاصلي واكتفيت بالقصص، وثانيهما انني اضفت اربعا الى قصص السيد كويتر زيادة عما في الكتاب الاصلي». ولد «بريخت» عام 1898م في مدينة أوغسبورغ «المانيا» لعائلة ميسورة، فقد كان الأب مديرا لاحد المعامل، «لكن عندما أصبحت راشدا لم يعجبني اناس طبقتي»، كتب هو في ما بعد في قصيدة «مطاردة لسبب وجيه» كان اسم «بريشت» مسجلا في قائمة الاشخاص الواجب اعتقالهم من قبل النازيين، فهاجر عام 1933م وأقام في الدنمارك، وزار عام 1935م الاتحاد السوفيتي وشارك في اصدار «الكلمة»، وفي عام 1941م 1947م أقام في الولاياتالمتحدة. وبعد التحقيق معه من قبل لجنة «مكارثي» لجنة مكافحة الممارسات اللا أمريكية» غادر «بريشت» الولاياتالمتحدة وعاد إلى برلينالشرقية وأسس مع زوجته «هيلينة فايغل» مسرح «برلينر انسامبل» وبقي يعمل فيه تأليفا واعدادا واخراجا حتى وفاته في 14 آب/ أغسطس 1956م. «رزنامة بريخت» من أمتع كتب «القص» فيه يقف على تخوم العالم، مصورا له في انسانية بارعة، وسخرية لاذعة، واستقصاء للنفس البشرية، وتشريح للمجتمع بمبضع جراح ماهر، قهر الحروف وشكلها في لوحة انسانية تحكي عن موهبة فذة وعقل راجح وثقافة موسوعية، ولفت نظري بعض كلمات لها دلالة وتماس مع دارجيتنا السودانية بنفس الروي والفعالية وإطلاقها، مثلا او حكاية او تعبير عن موقف. ويقول المترجم الأستاذ بو علي ياسين» «قد يجد القارئ في الترجمة بعض الجمل الطويلة والمتشابكة واحيانا تعابير عامية او شبه عامية، وكثيرا من الاستخدام غير الاصولي لعلامات الترقيم.. كل هذا مصدره النصوص الاصلية، لا الترجمة». وفي قصته «سقراط الجريح» يستهل «بريخت» النص كالآتي «سقراط ابن الداية، الذي كان بحواراته الثنائية المدعمة بالدعابات المعبرة، قادرا بسهولة وبراعة ان يجعل اصدقاءه يولدون الافكار الاصيلة ويزودهم بذلك ببنات أفكار ينجبونها بأنفسهم، خلافا للمعلمين الآخرين الذين كانوا يورطونهم بالافكار الهمجية». وبلا شك عدت بذاكرتك الى سقراط الفيلسوف اليوناني وحلقة تلاميذه، وكيف دفع حياته ثمنا لتمسكه بمبادئه، ولكنه عند «بريخت» «ابن الداية» الذي يجعل اصدقاءه يولدون الافكار ويزودهم ببنات افكار ينجبونها بأنفسهم. ثم ينتقل بنا الى ملهاة اخرى تجعل من سقراط محاربا محترفا «في صباح يوم المعركة هيأ سقراط نفسه جيدا قدر المستطاع لتلك المهمة الدموية بأكل البصل، للأسف لم يشعر سقراط بأي مفعول حقيقي للبصل، على الاقل ليس فوريا، فهكع منقبضا ضمن فصيلة من المقاتلين بالسيوف التي تقدمت في صف احادي الى موقعها». «بدا لسقراط أن الخطة جيدة، أو بأي حال ليست سيئة، على كل توضع دائما خطط، خاصة اذا كان المرء دون العدو قوة، لكن في الواقع يقاتل المرء كيفما اتفق، هذا أنه يضرب خبط عشواء، ولا يفعل المرء ذلك حيث رسمت الخطة، بل حيث يسمح العدو.» «حمل الجنود سقراط على رأس الفرسان الى حقل الاشواك، شاهد كيف كانت زمرة من الجنود المشاة تحمل رجلا سمينا على الاكتاف». هذا النص، يفترض أن الصدفة قد جعلت من سقراط ابن الداية بطلا في معركة أدخل فيها دون رضائه، ثم تسببت «شوكة» في قدمه في جلب النصر، «قال نافذ الصبر: انتم الفلاسفة مضحكون، ربما يؤسفك أنك قد ساعدتنا في كسب المعركة». «فكر سقراط بسرعة، خطر بباله شيء يستطيع قوله، يمكن أن يقول انه البارحة ليلا او اليوم صباحا قد التوت قدمه، مثلا عندما انزله الجنود من على اكتافهم». «قال سقراط: لأن الشوكة كانت في قدمي». «فيما بعد عندما غسلت زاتيبيه قدمه وانتزعت منها الشوكة، قالت مستاءة: كان يمكن أن يحدث تسمم في الدم». «قال الفيلسوف: على الاقل». تقول د. وفاء السلاوي في كتابها «فقه المحاكمات الأدبية دراسة في الخطاب والتأويل، «إن الخطاب شبكة معقدة ومتعددة على شكل التشكل والمرجعية والإحالة، فإن فعل القراءة المرتبطة بالمتلقي وشروط التلقي ومستويات التفسير والتأويل المتصلة بالنص الادبي والفكري تتلازم مع الخطاب ولا تتقاطع معه». ويتميز خطاب «بريخت» القصصي بسرد يتميز باستدعاء بعض الشخصيات التاريخية، ولا تمثل كتابته الساخرة منها انتقاصا، ولعلها المرة الاولى التي لا نضع السخرية من شخصيات تاريخية في خانة نقدها او تجريحها، بل أنه يكمل صورة انطبعت في الأذهان عنها، وهي الثبات على المبادئ والتضحية، وهذا الاستدعاء نجده في أعلى صورة يرفض الواقع الماثل وينتقده بقسوة وسخرية. ويستمر «بريخت» في استدعاء بعض الشخصيات، وهنا يأتي رمز السلطة «يوليوس قيصر والجندي» «منذ بداية آذار عرف الديكتاتور أن أيام الديكتاتورية أصبحت غريبة، لو أن غريبا جاء من احدى الولايات لكان ربما وجد العاصمة اعظم من اي وقت مضى، بدأ النظام مستتبا، كان قد نصب لتوه ديكتاتورا». السلطة والمواطن، الديمقراطية وغيابها، ثنائية الخوف والرعب من السلطة، يوليوس قيصر الذي حكم «روما» وانطونيو وكليوباترا، والخروج من قبضة وعشق الديكتاتور، ويذكر «سلفادور دالي» في سيرته الذاتية، «أنا والسوريالية» «ان ادراكي بأنني منقذ ومخلص الفن الحديث سيكون من اليوم قصر نظر فلسفي وفني، لأنني أنا وحدي القادم على اعلاء جميع التجارب وجميع القيم، المعنى الكلاسيكي، لم أكن تعسا لاكتشاف هذه القوة الجديدة». «وجوه متحجرة استقبلت الوصف المخيف لحرمان المواطن الروماني العامي، لقد نزع الديكتاتور القناع» «لم تكن الأوساط الديمقراطية سوى سياسيي النوادي الحرفية المنحلة منذ وقت طويل، والتي كانت في العصر الذهبي للديمقراطية تلعب الدور الرئيسي في الانتخابات، كان ديكتاتورية قيصر قد حطمت فيما مضى هذا الكيان». الجندي: «في غسق الصباح كانت عربة ثيران تمر عبر الحقول المخضرة بالربيع باتجاه روما.. قرابة الساعة التاسعة كانت عربة الثيران تمر عبر رواق بومبيي» وتستمر المأساة الملهاة داخل قصر قصير، والجندي الذي يحرسه أيضا يمنعه وهو متنكر من دخول غرفته «لم يأت قيصر لكي يشتغل في النحو، كل ما في الأمر انه كان يبحث عن إنسان يستطيع الوثوق به، إذن عن إنسان يصعب ايجاره في هذا القصر.. لدى مروره أمام مكتبة خطر على باله سكرتيره الأدبي، شاب لا علاقة له بالسياسة، فلعله ليس مفسداً». «في الصباح الباكر أُعلم الديكتاتور بأن سكرتيره قد اغتيل ليلاً في القصر، قائمة أسماء المتآمرين اختفت، وقيصر سوف يلتقي قبل الظهر بحاملي تلك الأسماء في مجلس الشيوخ، وسوف يسقط تحت خناجرهم». «نواصل»