أطلق صديقنا إدريس حسن أميز أبناء جيله في التحرير الخبري، ورئيس تحرير مرموق اليوم، اطلق استغاثة انسانية حميمة ب «الصحافة» في الثلاثين من اكتوبر الماضي، يحث فيها اجهزة الحكومة المختلفة ان تباعد ما بينها وبين العمل الصحفي واهله، وهو يؤكد ذلك بالقول «ان دخول الحكومة لمهنة الصحافة امر غير حميد، ويشكل ظاهرة غير صحية خصوصا في عالم اليوم..»، كما انه تولى التعريف باحوال الصحفيين مهنياً واقتصادياً واجتماعياً وهو يقول «ان مهنة الصحافة تحولت من مهنة المتاعب والتي عرفت بها تقليديا الى مهنة «قطع الارزاق، والافقار والتشريد والتجويع» وتلك كوارث لا تستثنى اسرة الصحفي ومن يعول من اهله، الامر الذي جعل دائرة الضحايا في هذه المهنة تتسع و«تجعل من البيوت مآتم وسرادقات للعزاء..». لم تمضِ الا ايام قلائل، لم تتمكن فيها اجهزة الحكومة من تقديم الشكر والافادة من النصح، حتى سارعت بعضها في سياق مختلف الى اعتقال ناشطين من بينهم صحفيون، لعل آخرهم جعفر السبكي الذي ورد خبر اعتقاله في «الصحافة» حيث يعمل، وقد اخذ اخذا من بين زملائه في صالة التحرير وهي صالة واسعة تسع ما يزيد على العشرين تربيزة، وربما امعانا في اذلال المهنة او كما يفهم من سياق الخبر. لقد جاءتني إفادة من الصديق محمد عبد الله الدومة المحامي رئيس هيئة محاميي دارفور ان معظم المعتقلين هم ناشطون من ذوي الصلة بالهيئة، لذا بادرت الهيئة بالتأسيس لموقف قانوني قومي مستنير، بمساهمة محامين مرموقين وناشطين في حقوق الانسان لمراقبة احوال المعتقلين الانسانية ولمواجهة أي ادعاءات قانونية قد تدفع بها الجهات ذات الصلة في مواجهتهم، امام المحاكم بمستوياتها المختلفة. من بين ما اشيع ان بعض الاعتقالات جرت على خلفية التواصل مع راديو دبنقا وهي ضمن الاذاعات التي توجه رسائلها الاعلامية لمجتمع دارفور باللغات القومية خاصة لغة الزغاوة، لغة الفور، لغة المساليت، واللغة العربية. ان «راديو دبنقا» امتداد لصحيفة عافية دارفور التي كان يصدرها الاتحاد الافريقي بتمويل اوربي، وشراكة مركز طيبة برس بادارة التحرير، وكانت توزع في معسكرات النازحين مجانا، وعندما توقفت عن الصدور نظم المركز احتفالا محضورا بمختلف «الوان الطيف» الاعلامي في دار الشرطة ببري لوداع المجموعة الاوربية. مع الاسف العميق لجوء اجهزة الحكومة الى اسلوب الارهاب المهني وسط الناشطين في سياق التحول الديمقراطي خاصة محاولات المجتمع المدني لضمان حرية التعبير الصحفي وحقوق الانسان وفض النزاعات والمؤازرات الانسانية، الا ان هذه فرصة اخرى وضرورية لوضع مسألة القوانين الكافلة لحرية التعبير على مائدة النقاش. ذات صباح ابيض اكدت اجهزة الرقابة الصحفية انها الغت الرقابة القبلية وانها لا تنتظر في ذلك اي تعديلات قانونية او دستورية، فبرغم انها يمكن ان تحتفظ بالسوط الا انها لن تمس به احدا. كان ذلك نفسه تعهد رفع من قدر جهاز الامن امام المهتمين خاصة وانه يمتلك بقانون ما يزال تحت النقاش قدرا وافرا من العنف. لقد قرر على «خلفية اخلاقية» ان يطبع ممارساته بما هو متوقع في مقبل الايام من تأسيس ضمانات حرية التعبير الصحفي بقوانين تتسق مع الدستور الانتقالي في حالة تحوله الى دستور دائم ينأى بالممارسات الامنية عن الاعتقالات والمضايقات المهنية، ويحافظ على العملية السلمية في البلاد وهي مقبلة على استفتاءين في الجنوب واستكمال اتفاق السلام لدارفور. ربما في هذه الظروف، علينا ايضا اعادة النظر في اهمية مجمل العملية الاعلامية للبلاد، خاصة وانها تجاوزت فرضية ان يستطيع طرف من الاطراف فرض منظومة فكرية عقائدية سياسية متكاملة عبر وسائط اعلامية تتحكم في مصائر الجميع كل الوقت، كما كانت المحاولة في المانيا النازية، او اثيوبيا منقستو وغيرهما. من ناحية اخرى اصبح التنوع هو اساس التناول الاعلامي الناضج، وفي هذا السياق فان الصحافة والصحفيين اصبحوا بالضرورة ضمن ممثلي الامن القومي للبلاد، وعلى ذلك تصبح انشطتهم وروابطهم واتحاداتهم وعلاقاتهم الخارجية ودورهم المختلفة انما ينبغي ان تدار برؤيتهم في وقت لم تعد المعلومات ملكا للاجهزة الحكومية مهما كانت حساسيتها. لعل ما اورده ود ورد Wood Word الصحفي الامريكي الاشهر دليل قوى على اطلاق يد الصحافة مجتمعيا من اجل التنوير والتثقيف والتعليم والترفيه، اورد ان مجلس الامن القومي الامريكي عندما قرر غزو بنما لم يفكر في منهج تكميم الاعلام، بل في منهج استباق الاعلام بمهنية عالية حتى «لا يفشل الصحفيون خططنا قبل بدء العملية»، واليوم فان كشف المعلومات عن غزو العراق برغم خطورتها على ارواح الكثيرين.. الا ان احدا في الحكومة الامريكية لم يسع الى توقيف من كان وراء الكشف وانما كان السعي الى معالجة الموقف والتقليل من الاضرار. ان سعي الصحافة الى المعلومات بكل الوسائل ونشرها اصبحت مهنة ضرورية لمجتمع اليوم على قاعدة ان دور السياسيين والقادة يقتصر على اتخاذ القرارات الصائبة التي تخدم المجتمع في ضوء ما توفر لهم اجهزة الاعلام والصحافة من معلومات صحيحة. على سبيل المماثلة فان المجتمعات الغربية اذا ما القت مسؤولية صحة المعلومات على الصحافة والصحفيين فان دولنا في العالم «الناهض» بحاجة الى مضاعفة الثقة والمسؤولية على الصحافة والصحفيين وليس التضييق عليهم بأية حال. ايضا قد لا يدرك بعضهم وهم في قمة المسؤولية الدستورية والتنفيذية الانتقالات المحتملة التي تحدث في البلاد في المستقبل بمرجعية توفر المعلومات. في ورشة بمدينة بريتوريا بجنوب افريقيا في العام الماضي، تحدث فاسو Vaso المدير التنفيذي لمنظمة اكورد الجنوب افريقية «زار السودان مؤخرا» عن بعض تلك التحولات. اورد فاسو ثلاث انتقالات رئيسية حدثت في المجتمعات البشرية، وهي انتقالها من المجتمع الزراعي «الرعوي» الى المجتمع الصناعي، ثم الى مجتمع المعلومات. في حالة المجتمع الزراعي الرعوي فان القوة انما تتمثل في العنصر البشري نفسه وعدديته ويتولى القيادة فيه القيادات التقليدية المعروفة، وفي حالة المجتمع الصناعي فان القوة تمثلها رأس المال والدولة تمثل القيادة، اما في حالة مجتمع المعلومات اليوم فان القوة تتمثل في المعلومات نفسها والقيادة تتمثل في الشركات والاعمال ومنظمات المجتمع المدني. بتأكيدات هذه النظرية عندما تسعى حكومة اليوم في السودان الى احتكار المعلومات او حجبها عن الآخرين، او التدليس بها ، او التضليل بتشويهها، فانها تماما تكون كمن وضع النيران في اطراف ثيابه ويعتقد انها لن تكمل دورة الاشتعال مرة واحدة او بالتدريج. وهكذا فان النصيحة الغالية التي بذلها الاستاذ ادريس للحكومة ، اذا ما قبلت به وراهنت عليه بحوار الآخرين حولها فإنها ربما تكون مدخلا لتصحيح الاوضاع تجاه الصحافة والصحفيين في الدولة والمجتمع معا.. في مطلع الالفية وبدعوة من المنظمة العالمية للملكية الفكرية زرت ضمن سبعة آخرين من زملاء المهنة مدينة جنيف بسويسرا، وكانت ضمن البرامج زيارة صحيفة محلية، لقد تعرفنا خلال حواراتنا في الصحيفة ان ا ي صحيفة تصدر دون تصديق تشجيعا للنشر الصحفي ولا ضمان لاستمرارية الصحيفة الا القراء، اما الرقابة عليها انما تنبع من ادارة تحريرها (فقط لا غير).. في ناحية اخرى كنت ضمن اجانب كثيرين وبريطانيين نستقل قطار الصباح من مدينة يورك الى لندن العاصمة البريطانية، وبعد ان ارتفعت الشمس اخذت طفلة في الصراخ وهي تجلس في حضن امها جوار شباك ، وهما من الريف كما قد بدا لي.. مع تعالي صراخ الطفلة بادرت بطلبي الى والدتها ان انزع عنها الثياب الصوفية الكثيفة التي على جسدها، فالحرارة كانت السبب الرئيسي في صراخ الطفلة. بعد تردد ازالت الام تلك الثياب، وبذلك لم يمضِ وقت طويل حتى توقفت الطفلة عن البكاء.. فعجبت امها ووجهت لي سؤالا بعد تردد، هل انت طبيب جديد في المنطقة ، فالافارقة يعملون كثيرا في الريف البريطاني وقد اعتبرتني واحدا منهم.. ولكن لدهشتها كان ردي بالنفي.. اذاً ماذا تعمل ؟! بعد برهة.. اجبت بصوت مسموع : انا بالمهنة صحفي.. في تلك اللحظة التف حولي كل من كان بالجوار وهم يعلون اصواتهم: إنها فرصة طيبة معنا صحفي، واخذوا يتوجهون الي بالاسئلة والتعليقات والتكليفات ايضا، حتى وصلنا محطة كينق كروس «King Cross» بلندن، لقد ادركت بالفعل من تجربتي تلك مع ركاب قطار ذلك اليوم (1980م) وتجربة زيارتنا لصحيفة محلية في جنيف ان الصحافة سلطة مجتمعية مستقبلية لا تستطيع السلطات الاخرى بما فيها التنفيذية من حد تأثيراتها في تكوين محددات الرأي العام الذي يحمي الوطن ويدافع عن حقوق المواطنة. ان الوطن يخسر كثيرا اذا لم تُطلق قدرات الصحافة والصحفيين ويخسر الظلمة من الشموليين ايضا من اطلاق قدرات الصحافة والصحفيين، وفي الغد القريب يفصل الشعب من يريد ان يبقى...؟ الصحافة المستنيرة ام الطغاة من الظلاميين؟ وغدا سيحدد المواطن من الذي يجب ان يخسر كمقولة القاضي الاشهر شريح قاضي المدينة «غدا سيعلم الظالم من الخاسر؟!». اما الصحفيون انفسهم ومن يعتقدون في صواب تطوير التجربة الصحفية السودانية وهم مسؤولون عن امان الوطن، ليس امامهم الا المضي قدما في توفير المعلومات الضرورية لبناء الوطن وهزيمة الطغاة من الظلمة، ولهم في ذلك اعادة تنظيم قدراتهم من اجل البقاء.