وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    قرارات اجتماع اللجنة التنسيقية برئاسة أسامة عطا المنان    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الرجل الشجاع وحده أغلبية»
في ذكرى رحيل الزعيمين جمال عبد الناصر والحاج عبد الرحمن الحاج

في الأثر، حين نابَ فتىً غضّ الشباب عن قومه وتقدم متحدثاً، تمّت معاتبته لأن في الوفد من هم أكبر منه سِنّاً، فجاء تبريره لذلك منطقياً وحكيماً ومختصراً أكّد به أهليّته حين ذكر أن المرء إنما بالأصغرين (القلب واللسان). وهذه الواقعة تحضرني دائماً حين تُذكر المواقف الكثيرة للزعيم القومي الخالد «الحاج عبد الرحمن»، تقدم فيها الصفوف مناضلاً جسوراً وخطيباً مفوهاً وشاعراً فذاً.. جُل تلك الوقائع حدثت في أوقات ملتهبة ومفصلية لازالت مذكورة ومحفورة في أذهان وقلوب الكثيرين. وهذه الصورة المصاحبة لهذا المقال جاءت في مناسبة مثال لما ذكرنا.. وهي تجمع الزعيم الحاج مع القائد جمال عبد الناصر قبيل حرب 1967م مباشرة.. وكان العنوان الرئيسي للصحيفة التي أبرزتها يعني الحاج جاء فيه «عائد من خط النار».. ونحن إذ نسوقها في الذكرى الاربعين لرحيل «عبد الناصر» والعاشرة «للحاج عبد الرحمن» نقدمها للأجيال آملين مما يلي أن يكون نبراساً يضئ طريق الحياة وسطوراً نورانية ترفض أن يمحوها ظلام النسيان أو التزييف الذي صار مهنة للبعض ولكن يشاء الله أن يتم نور الحقيقة ولو كرهوا. حينذاك كان الزعيم الحاج قد قاد وفد العمال السودانيين لاجتماع اتحاد العمال العرب بسوريا في تلك الأيام العصيبة والمصيرية والتي استدعت الحشد والمؤازرة والصمود.. ومن ثمَّ كان القرار بالتوجّه إلى القاهرة للاجتماع بالقائد جمال عبد الناصر ذلك الرمز الوهاج لكرامة الأمة العربية والافريقية.. وكان الحاج عند خط النار موفداً وانما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه.
الزعيم العملاق «عبد الناصر» حمل هموم الأمّة المصرية وآل (مع رفاقه) على أنفسهم مهمة الخلاص من نظام الحكم والاقطاع فكانت ثورة 23 يوليو في العام 1952. ولازال صوته يتردد وهو يعلن المبادئ الستة للثورة والتي تلخّصتْ في: القضاء على الاستعمار وأعوانه، وعلى الاقطاع وعلى الاحتكار وسيطرة رأس المال وكذلك اقامة حياة ديمقراطية سليمة وعدالة اجتماعية وبناء جيش وطني وقوي. ولقد أسعدتني الظروف قبل أسابيع بمشاهدة جزء من فيلم (ناصر 56) وكذلك برامج عرضت إفادات لبعض رفاق «ناصر» وشهود للأحداث الذين أمّنوا على زعامته ثم عرض لمواقفه الجريئة الحاسمة مثل تأميم قناة السويس، الجلاء، صموده أمام العدوان الثلاثي وقانون الاصلاح الزراعي الذي طمأن الفلاح المصري وكان محفزاً له لمزيد من الانتاج.. كذلك تأميم البنوك. عبد الناصر كان قامة شامخة ذا حضور قوي على الصعيد الوطني والاقليمي والدولي. ساعد الكثير من حركات التحرر بالعالم وسعى لاعلاء صوت العرب والعمل على توحيدهم الشئ الذي بدأ بنفسه بمشروع الوحدة مع سوريا وأراده أن يكون نواة لوحدة عربية شاملة.. لكن ذلك الحلم تم اجهاضه ومع ذلك فإن عبد الناصر أبقى على تسمية مصر بالاسم الوحدوي «الجمهورية العربية المتحدة» والذي بقى سارياً حتى وفاته. عبد الناصر كان أحد قادة وبناة حركة عدم الانحياز.. وفي حرب 1967 واجه العدو الاسرائيلي.. وبرغم ما صاحبها من أحداث فقد أصبحت علامة فارقة في تاريخ الأمة العربية. واذا كانت الزعامة بسالة ومواقف ومسؤولية فان الزعيم (ناصر) قدم النموذج الحي الصادق لذلك، ونذكر هنا اعلانه تحمّله مسؤولية الهزيمة في تلك الحرب في شجاعة نادرة، واتبعها باستقالته مع التأكيد بأن يظل جندياً مخلصاً لوطنه. والتاريخ سجل رد الفعل المصري والعربي الطاغيين وتلاحم الشعوب معه ومطالبتها له بالعدول عن الاستقالة في مظاهرات ضخمة اجتاحت كل البلدان العربية.. فكان ذلك استفتاء حقيقياً للقائد العظيم المهزوم المنتصر.. ويا لها من عظمة! ولعل التاريخ لم يشهد حتى هذه اللحظة تجاوباً وتظاهراً أضخم من ذلك الذي حدث إبان الاستقالة إلا المظاهرات التي خرجت حزينة عند وفاته. وحتى بعد انتكاسة 1967 فقد سعى عبد الناصر لخلق تكامل ثلاثي مع السودان وليبيا بعد انقلابي النميري والقذافي الذيْن آمنا بنموذج عبد لناصر. ظلت مصر قبلة العرب مهما اختلف أو اتفق الآخرون معه. وظل هو يحمل هموم العرب وينوء بها.. وكان آخرها حين جمعهم بالقاهرة متبنياً المصالحة الفلسطينية، وبانتهائها، وحينما كان يودع الزعماء العرب توقف القلب الكبير المثقل بهمومهم عن الخفقان، كان حلم ناصر الأكبر هو الوحدة العربية وبالمقابل فقد كان هو حلم الأمة العربية بأسرها.. والتي صُدمتْ، ولم تصدق نبأ موته حيث تنازعتهم مشاعر الحزن والفجيعة واليتم.. وها هو نزار قباني يتحسر باكياً مصدوماً «قتلناك يا آخر الأنبياء» ويواسي محمود درويش نفسه والآخرين من وسط أحزانه ويهتف «ولسْتَ نبياً ولكن ظِلك أخضر...».
ذاك عن العملاق جمال عبد الناصر... أما الزعيم الحاج عبد الرحمن فقد نذر نفسه وحياته منذ يفاعة صباه لخدمة شعبه ووطنه.. ولقد اتصف بعلوّ كعبه في الشجاعة والشرف والاقدام. اشتهر بكونه ذي نضوج مبكر ومقاتلاً عنيداً وجسوراً متصدراً، لم تلِنْ له قناة، واضعاً عِزة وشرف الأمة ورفاهيتها نصب عينيه واذ نقول ان المرء بأصغريه، فقد كان كذلك إذ انه برز في كل المواقف النضالية والسلوكية بما عُرِف به من أنه ثابت الجنان، قوي البيان، فصيح اللسان شعراً ونثراً، ملهباً للحماس، ذا وعي عالٍ ومتقدم.. كل هذا أهلّهُ للقيادة والريادة وبالتالي اكتسب اسم (الزعيم) وكان بحق «الرجل الشجاع والذي وحده أغلبية» ولاقى في سبيل ذلك السجن والتشريد والقيود والابعاد إلى جنوب السودان مكبلاً بالحديد.. والحرمان من أولاده وأسرته وتبع ذلك فصله التعسفي من العمل ومحاكمته بواسطة مجلس عسكري ايجازي عالي.. حين اعتبروا نضاله ودفاعه عن كرامة أمته ومناهضته للسلطة العسكرية الحاكمة «سوء سلوك»، فقلهدوه بذلك وساماً وشرفاً عظيماً ويا له من شرف! الزعيم الحاج عبد الرحمن قابل كل ذلك بصمود وبسالة ورجولة قلّ نظيرها صارت تحكى وتروى إلى يومنا هذا بأفواه وأقلام الأحرار الشرفاء.. والزعيم الحاج قابل ذلك التعسف بمزيد من النضال والتضحيات.. وجاءت قصائده «النارية» من وراء قضبان السجون مشحونة بالهجوم على الطغاة واستنهاض هِمَم ابناء الشعب - كما وصف حالهم داخل الزنازين مع تأكيده على قوة شكيمتهم وعدم الرضوخ... وكمثال:
منذ الاربعينيات تقرّرْ فيها خطّ كفاحي ما تَرّيت ورا.. وقَطْ ما رميتو سلاحي.
وكمثال: يوم قالوا السفر متوجهين ملكال وَضَعو لي القيود في رِجْلِي كالخلخال مِن خلفي السلاح لا كِلْمه.. قَطْ لا سؤال واقسَمْ بالكفاح لابُد يزول الحال.
وما فَتِئَ الليث يوصف المعاملة السيئة التي يلاقونها والزنازين التي وضعوه بها حيث «النور فيها ينساب من خلال قضبانا» كما قال. ويقسم - صامداً - على زوال ذاك الحال والكابوس والظلام ليشرق فجر الحرية والعزة.. ولمجرد أن سرد تلك المعناة ووثق لها وسكب تحنانه بسؤاله عن حال أولاده ووالديه الطاعنين في السن وكيف يتدبرون حالهم مع ضيق ذات اليد.. فنجده فجأة يبدأ بِلوْم نفسه وينتهر قلبه ويزجره فيأتي صوته داوياً من داخل سجنه بادغال الجنوب:
ايه هذا الكلام يا قلبي ايه اسبابو؟ هل خِفت السجن لكآبتو ولعذابو؟
أم خِفْتَ الكفاح؟ يُمكن جَنَحْ في حِسابو قُمْ أمْعِنْ تَجِدْ قادتنا في محرابو!!
هل هناك عظمة أكبر من هذه؟! الزعيم الحاج تزاوجت فترات سجنه من شهور وحتى سنوات.. وكان عند اطلاق سراحه يصل إلى مدينة عطبرة فيجد ان الخبر قد سبقه إليها وانتشر انتشار النار في الهشيم ويجد الجماهير الغفيرة في انتظاره.. جاءت بطواعية تحدوها محبة طاغية له وعرفاناً بجميل هذا الفارس المغوار المصادم فتستقبله استقبال الفاتحين، وتحمله - هادرة - إلى مقر النقابة أو نادي العمال قبل منزله.. وقد وثق لهذا الكثيرون آخرهم الاستاذ أبو شنب.
هذه الجماهير الواعية المحبة هي نفسها التي كانت تؤم الليالي السياسية والاجتماعات لتستمع إليه قائداً موجهاً مصادماً وخطيباً وشاعراً وتتجاوب معه بالهتاف والتصفيق بل كانت تقاطعه منتشية ومستزيدة بالعبارة الشهيرة «احرق يا حاج»! الزعيم عايش دقائق القضايا الحياتية للشعب والمصيرية للوطن، فكان نعم الصوت الواثق الصادع بالحق وحمل اللواء في شجاعة اسطورية (كما وصفوها) كادت أن تكلّفه حياته في بعض المنعطفات الوطنية.. وعلى النطاق الاقليمي والعالمي فقد كان له مع رفقائه اسهام واضح بحكم موقعه القيادي في العمل النقابي مما جعله معروفاً بالاسم.. نذكر منها حين حضرت الوفود من الخارج لتقصي احوال العمال المعتقلين بعد احداث حركة 19 يوليو 1971 وطلبوا مقابلة الزعيم الحاج «بالاسم».. وكان الحاج قبيل تلك الاحداث قد حضر مؤتمر اتحاد العمال العالمي الذي انعقد في بودابست بهنغاريا.. وحين استدعوه من السجن لمقابلة الوفد وقد كان الجو السائد مشحوناً بالرعب والخوف بعد المجازر التي أعدم فيها الشهيد الشفيع أحمد الشيخ رفيق دربه وصديقه.. لكن الزعيم الحاج الذي تشكلت جيناته من الصفات العظيمة كانت البسالة من ابرزها فقد تقدم برباطة جأش لا يعرف الخوف إليها سبيلاً ولم يلجأ إلى وسائل السلامة التي آثرها الجميع في تلك الأيام الدامية ولم يخش على نفسه من نفس مصير الرفاق الشهداء.. بل لم يكتفِ بسرد احوال المعتقلين معه بالسجن لكشفها للعالم الخارجي وانما ذهب إلى ان أكدّ لهم ان الشفيع برئ وقد اعدموه ظلماً! وقال مقولته الشهيرة التي يحفظها الجميع «على أي حال فإن الأمّة السودانية ليست عاقراً واذا مات الشفيع فهناك ألف شفيع»! هذا هو الموقف الذي علّق عليه الفلسطيني بقوله أنه «شجاعة اسطورية»! واستحق عليه الزعيم الحاج فعلاً مقولة «الرجل الشجاع وحده أغلبية».. وبمثل هذه المواقف يخلد الرجال لأنه موقف للتاريخ!! الحاج حين قابل الوفود وقال ما قال كان سجن كوبر يضم أكثر من سبعمائة سجين ورائحة الدماء كانت تفوح والغضب في أعين العسكر يلوح.. ومع هذا يتصرف الزعيم الحاج هكذا!! ومع هذا يأتي البعض فيؤرخ لتلك الفترة ويقفز فوق مثل هذه المواقف ولا يذكرها أما غيرها من المواقف التي لا مجال لذكرها هنا كمثال مجابهته النميري في السجن وكان أول المتصدين له فنجد من ينسبه لآخرين أو قد لا يذكر ريادته للحاج.. وهذا خيانة للأمانة وكتم للشهادة التي قال رب العزة والجلال عنها «ومن كتم شهادة فانه أتم قلبه». الزعيم الحاج امتاز بذكاء فطري وصدقٍ وعفة يد وأمانة ونداوة كف وتسامح مع عفو عند المقدرة وشجاعة مطبوعة وصفاء نفس وخفة روح ووعي عالي غذّاه برفق وافر من نهم فائق للاطلاع والتثقيف الذاتي واكتساب المعرفة.. هذا كله مع الخيار كامل للوطن والمواطنين وصفات أخرى عظيمة.. من كل هذا خُلقت وتشكلت الكاريزما المتميزة المتفردة التي اتصف بها، وأهّلته للزعامة الحقة واستطاع رغم صغر سنه آنذاك لأن يتبوّأ منصب سكرتير عام أكبر نقابة عمالية بالسودان وهي نقابة عمال السكة الحديد بعطبرة وجاء في صحيفة الطليعة حينئذ «الحاج عبد الرحمن شخصية نقابية لها خطرها ووزنها فهو رجل عنيد في مواقفه النقابية، ويخافه الانتهازيون كما يخافون الموت، فهو بعبعهم» والحاج شاعر قومي رصين وخطيب مؤثر وكاتب يزخر حرارة وحيوية وهو زعيم الديمقراطيين في نقابة عمال السكة حديد».. انتهى.. ولا يحتاج إلى مزيد! وفي وجود من هم أكبر منه سناً وبتلك الكاريزما وتلك التضحيات وذلك التلاحم مع قواعد الشعب المختلفة فان سهم شهرة الحاج وريادته انطلق بسرعة الصاروخ وكانت قوة دفعه الجبارة هي ثقة الشعب فيه ومحبته له وبالتالي تفويضه له.. فتقدم الصفوف بجدارة إلى مصاف القيادة على مستوى القُطر كله حيث اضطلع بمركز السكرتير المناوب لاتحاد عام عمال السودان، وكان به شعلة من النشاط يجوب أقاليم القطر ملتصقاً بقضايا المواطنين في أماكنهم ووجهاً مشرقاً حتى خارج السودان كما ورد من أمثلة. وكان مع كل هذه العظمة في قمة التواضع وابن بلد حقيقي غاية فرحته أن يقضي للناس حوائجهم حتى على النطاق الشخصي، ولا ننسى حين كافأته مدينة عطبرة (عاصمة الحديد والنار) وضواحيها حين انتخبته ممثلاً لها في الانتخابات العامة التي انتظمت البلاد عام 1968 حين كان ترشيحه باسم (قوى العاملين)، وحقق فوزاً كاسحاً محيّراً ولكن ليس بمستغرب مع شخصية الزعيم الحاج الذي اجتمع ناخبوه على قلب رجل واحد برغم التباين الفسيفسائي بتنوع قبلي، اجتماعي وعقائدي في منطقة ذات نفوذ طائفي طاغي وعريق لا تخطئه عين ولا يتجاهله عاقل.. ولكنه الحاج عبد الرحمن المعروف لديهم المقبول عندهم برغم علمهم بقناعاته الفكرية وقناعاتهم هم الذاتية بأنه هو خير ممثل لهم بوضوح وصدق شفيف.. في ظاهرة غير مسبوقة مما دعا الكثيرين للقول ان (الحاج هو عطبرة وعطبرة الحاج) وهو قول مشبوب بالإلفة والعقل والعاطفة معاً.
فوز الزعيم الحاج بعطبرة انداح الابتهاج به فعم العاصمة وبعض المدن الكبرى بالأقاليم فجاءت البرقيات تترى مع القصائد والاهازيج التي خلّدت ذلك الانتصار العظيم وهذا لم يحدث لأي نائب منتخب لا قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا.. ومن هنا يعترض البعض على حصر وصف الزعيم بكلمة (نقابي) وانما يضيف لها «القومي» كذلك ودخل البرلمان ببزة العمال (الأوفرول) حاملاً شاكوشاً.. وهذه ايضاً صورة غير مسبوقة.. فكان الرائد الذي لم يكذب أهله.. كل المواطنين.
الزعيم الحاج تفاعل مع كل القضايا المحلية والاقليمية والدولية بمقالات وخطب وقصائد عامية وفصحى.. وما دمنا بصدد ذكراه وذكرى الزعيم عبد الناصر فانني أورد بعضاً من تلك القصائد في مواقف عبد الناصر المختلفة. نبدأها بقصيدة ذات مفردات بسيطة سهلة الحفظ ولحنها بنفسه على طريقة مارش عسكري وقدمتها زهرات صغيرات هن ابنته وابنتا أخته وأخيه في ليلة سياسية كمقدمة، مسجلاً ريادته لما يُسمّى الآن «الكورال».. جاء فيها:
المجد للعروبة المجد للعروبهْ في زحفها المقدّس تجتاز كل صعوبه
«إيدن» تحامقْ ليهْ والمجرم «جي موليهْ» بلادنا نهبوها شمالها وجنوبا
حذّرْ بَني السكسونِ وعصابة الصهيونِ الموت فدى بلادنا ضريبه يفخروبا
تاريخنا في البطولة معروف لكل دوله «المهدي» من رِجالنا وقدوتنا «ود حبوبه»
وفي قصيدة أخرى بعنوان «اللهيب» يخاطب بها «ناصر» منها:-
الليله النسور اتجمّعت في الداره وحّدت الصفوف زي الجيوش جرّاره
يا عصابة ايهود الليله جاتك غاره ما بتنفع فنادق وما بتفيد صفاره
قسماً بي «جمال» بالأمة العربيه قسماً بالنضال واكتوبر الثوريه
قسماً بالشهيد بالوحدة بالحرية وما بِنْترُ ورا.. واحد يقابل مِيّه
لبيك يا «جمال» الشعب هبّ يصيح حيّ على الكفاح هيا نسابق الريح
ننزل في (القدس) نجعل سيما كسيح والمات من زمان بي حال رفيقو يشيح
وفي أخرى:
ناصر يا عظيم اشعلت فينا النار
ناصر يا عظيم دايرين نجيب الثار
غيرك يا عظيم مين يلهم الثوار
يا سيف العروبة الصارم البتّار
وبعد فإننا بهذا نحيى ذكرى قائدين عظيمين علا اسم ونجم كل منهما كنتاج للمواقف الرجولية الصادقة والانحياز التام للشعوب والمساك على جمر القضايا بتقديم التضحيات في إثره ونكران ذات ونزاهة مع الايمان التام بالله سبحانه وتعالى الذي بحوله وقدرته تتسطر سيرتهم في سجل الخالدين بأحرف من نور، عبر الاجيال مهما حاول البعض أن يزيف التاريخ ويبخس الناس أشياءهم أو يحاول محوها فالله كفيل برفع قدرهم وإعلاء ذكرهم وإحقاق الحق وهو الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً ان لم يكن في هذه الدنيا الفانية ففي يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ونقول ما قاله الشاعر:
عدوّك مذموم بكل لسان ولو كان من اعوانك القمرانِ
ولله سرّ في علاك وإنما كلام العِدا ضرب من الهذيانِ
والحمد لله فإن ذكرهما لم ينقطع بالخير حتى اليوم وإن شاء الله يظل كذلك .يقول ماركس ان الرجال يصنعون تاريخهم الخاص في ظل ظروف موجودة بالفعل.. وهكذا كانا، ونرجو ان يتغمدهما الله برحمته ويتقبل إن شاء الله كل ما قدماه لشعوبهم جاعلاً إياه في ميازين الحسنات وعاشت ذكرى الخالدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.