في احتفال سنوي يقام كل عام في مثل هذه الأيام بولاية النيل الأزرق يعرف ب «جدع النار» وأعياد الحصاد يستمر لثلاثة أيام تجتمع فيها كل قبائل «الإنقسنا» والقبائل الأخرى بالمنطقة كل بموروثاته وعاداته وتقاليده وموسيقاه المحلية التي تعبر عنه في عيد الحصاد، «أبواب» كانت حاضرة لعيد «جدع النار» الذي يفتتح بأنغام الوازا والدلوكة إيذاناً ببداية الموسم و «رجم شيطان الجوع». وبالقرب من مركز مالك عقار الثقافي بمدينة الدمازين حيث الساحة العريضة «الدارة» ومكان الاحتفال، بدأت الحشود العفوية تتوافد على ساحة «اعياد الحصاد» لم تثنهم الشمس الحارقة فالساعة كانت تشير الى الواحدة ظهراً، وتفرقت السحائب الشفافة ليكون الهجير اشد قسوة.. سألت احد المحتفلين لما اخترتم وقت الظهيرة لبداية مهرجان الحصاد، فرد ببساطة وعفوية «التوقيت بالنسبة لنا مناسب جداً، فالاحتفال يعني ضربة البداية للموسم، وهي الفترة التي نتعرض فيها لأطول فترة من الشمس». ويبدو ان المغزى ليس احتفالاً فقط وانما استعداد لعمل مضنٍ لحصاد وفير وسدل لستار الموسم بعد جهد استمر لشهور ليست باليسيرة بدأت منذ تباشير الخريف «الرشاش»، حيث ضربة البداية لتهيئة وفلاحة الأرض البكر ورمي البذور ومن ثم مرحلة النظافة و«الكديب» الى ان تعانق سنابل الذرة والدخن والسمسم ايادي الزراع، وقبلها يحتفلون لثلاثة أيام بأعياد الحصاد «جدع النار» ومن ثم يكتبون وثيقة توقع عليها كل القبائل بواسطة المشايخ والسلاطين والعمد ورجالات الإدارة الأهلية، يتم تسليمها الى حاكم الولاية في موروث قديم درج أهل المنطقة عليه منذ الأجداد. وبدأ الكرنفال بطابور عرض للفرق المشاركة التي تمثل كل القبائل، فتعالت أصوات الوازا مقدمة الجموع في طواف ساد ساحة الاحتفال تصاحبة الأغاني باللهجات المحلية. ومن الفرق الشعبية التي قدمت رقصات تراثية من المنطقة فرقة النخيل للدلوكة وفرقة الشيخ فضل الله للزمبارة وفرقة بانقرو، والقرون. ومن ثم تم تسليم المعاهدة ببداية الحصاد لوالي الولاية مالك عقار الذي خاطب الحشود مثمناً جهود أهل المنطقة في الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم الموروثة، وقال «انا شاكر ليكم جيتكم لينا والاحتفال بعيد الحصاد السنوي جدع النار.. وهو عيد مهم لكل القبائل». وتحدث عقار عن «جدع النار» مؤكداً انه تعبير يرجع الي اعتقاد من زمن بعيد قبل المسيحية والإسلام ساد في المنطقة، وأضاف هذا العيد يدل على تدين اهلنا بطريقتهم البسيطة لعبادة الله خالق الكون، لأن في اعتقادهم أن الشيطان الملعون يجلب الشر ويرتبط بالأشياء البطالة التي من ضمنها الفقر والجوع، وفي اعتقادهم أيضاً أن الشيطان يخاف من النار، وقال «حتي يهرب الشيطان فقد خصص له وقت معين، وفي تصورهم ان الإنسان لا يقاتل وهو جائع وما شبعان، وحتى يقاتلوا الشيطان اختاروا موسم الحصاد ليكون موعد رجم الملعون وطرده بجدع النار». واشار عقار الى ان الحرب مع الشيطان و«الحاجات البطالة» تقليد درج الناس عليه، والبعض يصفها بالعادات الضارة والغريبة. وشدد عقار على احترام ثقافات الآخرين واعتقاداتهم وتقاليدهم مادامت لا تضر بالآخرين، وقال «الإنسان ده ثراث، ويوم ما يفقد لغته وتراثه تضيع هويته» ولذلك علينا أن نحترم أشياء الغير، واتفاقية السلام نصت على ذلك. واضاف ان المشورة الشعبية جاءت لتحافظ على موروثات المنطقة وثقافاتها وعلى الجميع أن يشارك فيها حتى تستمر اعياد «جدع النار». وتحدث ممثل الإدارة الأهلية والمشايخ والسلاطين مبارك، عن أهمية التكاتف والتعاون بين الأهل في جمع حصاد الموسم، وقال شعارنا لعيد هذا العام «منصورة منصورة» في إشارة الى التغلب على شيطان الجوع ب «جدع النار» والحصاد الوفير.