قبل أكثر من عام خرجت توصية أثارت جدلاً واسعاً وغضباً كبيراً من أحد اجتماعات وزراء الإعلام العرب، والذي تم في نطاق جامعة الدول العربية.. التوصية تنادي بفرض رقابة من نوع ما على بعض الفضائيات عن طريق سحب تراخيص بثها عبر الأقمار الاصطناعية المملوكة للحكومات العربية. ومعارضو هذا التوجه من المفكرين وأهل الرأي يدركون أن هذه التوصية لا تستهدف فضائيات النصب والاحتيال التي تمارس الغش والتدليس عبر المسابقات التي تمول بالاتفاق مع بعض شركات الهاتف، أو القنوات التي تبث مواد خارجة عن الذوق العام والأخلاق، إنما المقصود هو الحجر على القنوات الإخبارية والسياسية التي تبرز الرأي والرأي الآخر، وفي نفس الوقت تفضح ممارسات بعض الأنظمة العربية. الإقرار بالرقابة والحجر يعني السباحة ضد منطق العصر الذي نعيشه.. عصر العولمة وتدفق المعلومات عبر الهواء الذي لا يعبأ بالحدود الجغرافية للدول، ولا يعبأ كذلك بكل ما تملكه الدول من أجهزة أمنية ورقابية. لقد ولى إلى الأبد عهد خنق المعلومة والرأي الحر المستنير أمام سطوة التقانة الحديثة التي راحت كالسيل الهادر تكنس في طريقها كل المفاهيم التي جعلت من بعض الدول جزراً أشبه بالسجون المعزولة. صحيح أن هنالك بعض الفضائيات التي تمارس النصب والاحتيال والتدليس والغش عبر برامج هايفة تتخذ من المسابقات السطحية مورد رزق، كما أن بعض القنوات تبث برامج تجافي المعايير الأخلاقية أذكر منها برنامج أمريكي يبث عبر القناة الرابعة من محطة MBC.. هذا البرنامج اسمه بالإنجليزية (Moment of truth).. وترجمتها لحظة الصدق، وكان الأصح أن يطلق عليه في تقديري اسم «لحظة العهر أو الفجور»، فالبرنامج يطرح أسئلة من نوع «هل سبق وأقمت علاقة مع شقيقة زوجتك؟!.. هل سبق لكي أيتها السيدة أن خنت زوجك مع أقرب أصدقائه؟!».. ويخضع المتسابق إلى جهاز كشف الكذب وكلما أجاب إجابة صحيحة ربح عشرة آلاف دولار! هذا البرنامج دعوة سافرة ومقززة للفسق والفجور، حيث يعمد المتسابقون إلى تعرية ذواتهم حتى من ورقة التوت من أجل المال. وقد يخطئ البعض حينما يظنون أن مثل هذه البرامج تعبر عن قيم وسلوكيات الشعب الأمريكي، فكثير من الأسر الأمريكية تتمسك بمعايير الأخلاق على عكس ما يظن الكثيرون. كل هذه البرامج على ما فيها من نصب واحتيال أو فسق وفجور، لا تبرر هذا المسعى من قبل الحكومات العربية للسباحة ضد تيار حرية الرأي والرأى الآخر، فمن الواضح أن العقليات الأمنية التي تحكم بعض الدول، لا تعبأ بمثل هذه القنوات الهابطة.. بل هي موضع ترحيب منها طالما تشغل الناس، لكنها تركض يائسة ومفزعة لاجتثاث قنوات الرأي الحر المستنير.