بلفاست تلك المدينة الإيرلندية التي يتجسد فيها الصراع ما بين المذهبين البروستانتي والكاثوليكي في أوضح صوره، فالكاثوليك يطالبون بإستقلالهم عن المملكة المتحدة فيما البروتستانت يؤمنون بالبقاء تحت عرش صاحبة الجلالة ليندلع الصراع المسلح بين الفريقين. تجسدت أمام ناظري بلفاست بجوها المشحون بالترقب العرقي والديني في ذاك الصباح الباكر المنعش للذاكرة والأفكار تتهادى في ذهن المرء منا كيف لا وذاك النسيم المنعش يجعل المرء يبتسم لكل مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وترحيلنا يخترق ذاك الحي الامدرماني العريق، لتمتليء عيناي بمنظر أطفال المدارس بألوان أزيائهم المختلفة تجسيداً للسودان ومستقبله الواعد، ولكن ما بال هذا الجو ساكناً وراكداً بينهم هكذا فالأطفال معروف عنهم حبهم للحركة ومن ثم سهولة تعرفهم على بعضهم البعض، فصحيح أن أزياءهم متباينة ما بين أزياء المدارس الحكومية والخاصة ومدارس كمبوني، إلا أن ما لفت إنتباهي هو أنهم كانوا لا ينظرون لبعضهم البعض ولا أظنني أبالغ إن قلت إنهم يتجاهلون وجود بعضهم، و لولا ذلك التدرج السوداني اللوني لحسبت أنني في (بلفاست الإيرلندية) .. تلك المدينة التي يشق أحد أحيائها شارع يحتفل فيه أحد الفريقين بذكرى انتصاره ( الذي تجاوز المائة عام) على الفريق الآخر فيما يعرف بعيد (الاورآنج) و لا يتم الإحتفال إلا بعبور ذاك الشارع والذي تتم حراسته من قبل رجال الشرطة حتى لا يحدث أي إحتكاك بين الفريقين يمكن ان يؤدي لانفلات أمني، ذاك كان هو إحساسي لأنني عندما داعبت طفلاً شمالياً رد لي تحيتي تلك بابتسامة أضحكت قلبي قبل وجهي، وفي يوم آخر حينما داعبت أحد الصغار أبنوسي اللون جنوبي الجهة قام بدس رأسه بين طيات مجلة ((ميكي ماوس) تلك التي كان يقرأها لينغرز خنجر من الحزن في قلبي لانني إكتشفت بعد كثير من التفكير أنه لم يسع لتجاهلي لبرودة في مشاعره ولكن لانه يبدو أن لا احد .. لا أحد قام يوماً بمداعبته هكذا لاكتشف أن يومي الإثنين السجم والثلاثاء الرماد الداميين لم يكتفيا بحرق ما كان متماسكاً من ماضينا وتسميم أجواء حاضرنا بل ألقيا بظلالهما السوداء على مستقبلنا، بتأثيرهما على جوهر العلاقات الطفولية البريئة بين أطفالنا لتصبح مشاعرهم الدافئة رماداً تذروه الرياح في القلوب الغضة. علما ان الحكمة الفرنسية تجنبت مثل تداعيات يومي سجم ورماد السودان هذان حال معالجتها لثورة المهمشين الباريسية، فعلى الرغم من عنصرية تصريحات وزير الداخلية الفرنسي (ساركوزي) والتي مست بشكل مباشر المسلمين من مواطني الجمهورية الفرنسية إلا أن مؤسسة الرئاسة الفرنسية تداركت الامر وذلك من خلال تكوينها للجان متخصصة لدراسة الاسباب الحقيقية لهذه الثورة وصولاً لجذورها بغرض إيجاد حل نهائي لها يضمن عدم تكرارها. مع العلم ان هذه اللجان تضم علماء دين وخبراء في علم الإجتماع والنفس والإقتصاد ولكن الملاحظة الجديرة بالذكر انها تضم من بينها ممثلين عن المسلمين الفرنسيين، بل ولم تكتف فرنسا بذلك بل قام الرئيس جاك شيراك بإستضافة ممثلين عن شباب الاحياء التي إندلعت فيها ثورة المهمشين الفرنسية مستمعاً لوجهة نظرهم. و قد إعترفت الحكومة الفرنسية بوجود قصور في سياساتها التنموية مما أدى إلى تركز الشعور بالظلم الإجتماعي لدى إثنيات فرنسية بعينها وذلك لأنها وجدت نفسها خارج التروس التي تساهم في الدفع بعجلة الإقتصاد الفرنسي وبالتالي تحسين مستوى معيشتها، ولان وسائل الإعلام الفرنسية الرسمية تعاملت بمبدأ وضع الملح على الجرح عند طرحها للمشكلة على المواطنين الفرنسيين من ذوي الأصول الأوربية بإعتبار أن هناك نوعاً من التهميش ذو تواطوء صامت محسوس وغير مرئي يمارسه مجتمعها الابيض ضد الإثنيات الاخرى وضربت مثالاً على ذلك من خلال عرض دراسة قام بها أحد المراكز المتخصصة والتي تبين على أثرها أن فرص توظيف الفرنسي ذي الأصول البيضاء أضعاف أضعاف فرص الفرنسي من أصول مهاجرة، ولعل بسبب اجراء مثل هذه الدراسة لم نسمع بقيام دعوة داخل فرنسا تدعو لقيام منبر للسلام العادل!! الملح والجرح: الايام التي اعقبت مقتل الراحل د. جون قرنق دي مبيور النائب الاول لرئيس الجمهورية ورئيس جنوب السودان .. الايام التي اعقبت مقتله هي الايام التي قمت اثناءها بكتابة (الملح والجرح: بلفاست الأمدرمانية .. ويوما السجم والرماد!).