في زيارته للسودان في عام 1838م فكّر محمد علي باشا في شق ترعة من النيل الأبيض إلى كردفان، ولكن يبدو أنّ انشغاله بأمور السياسة لم يسعفه في تنفيذ فكرته. هذا تفكير رجل دولة أجنبي ينظر بعين الخيال إلى مآلات الأمور على الرغم من أنّ السودان في ذلك الزمان «القرن التاسع عشر» كان ينعم بأوضاع بيئية مستقرة! والشاهد أنّ السودان ورغم ما حباه به الله من إمكانات طبيعية وأرض خصبة ومياه عذبة سطحية وجوفية وغيرها، إلا أنه ظل يعاني في كثير من أجزائه من عدم توفر المياه، ووفقاً لدراسات أعدتها منظمات أجنبية ووطنية فإن متوسط نصيب الفرد من المياه المتاحة الآن يقدّر بحوالى «21.9» متر مكعب في الحضر بنسبة 67% من المعدل المطلوب الذي يبلغ «32.85» متر مكعب سنوياً، فيما يقدّر نصيب الفرد من المياه المتاحة في الريف بحوالى «5.48» متر مكعب سنوياً بنسبة 75% من المعدل المطلوب «7.3» متر مكعب سنوياً، كما أنّ التوزيع الجغرافي والزمني للموارد المائية غير منتظم على كامل مساحة السودان، فبينما يضرب الجفاف بعض المناطق تتعرض مناطق أخرى للسيول العارمة التي يصعب التحكم فيها، وقد خلق ذلك نوعاً من عدم الاستقرار وأثر كثيراً على التنمية، فالمعاناة والرهق في الحصول على الماء وشبح العطش الذي يهدد الإنسان والحيوان في أرياف السودان يحرمه من الاستقرار، وبالتالي من التعليم والصحة بسبب موسمية الأمطار التي تنحصر خلال ثلاثة أشهر فقط يعقبها صيف طويل في مساحات واسعة بعيدة عن نهر النيل، وتسبب كل ذلك في كثرة ترحال الرعاة بحثاً عن الماء، مما سبب العديد من الإشكالات والنزاعات بين القبائل. والحكومة طرحت برنامجاً لمحاربة العطش تحت مسمى «زيرو عطش»، وهو برنامج غير محدد المعالم ولم تسبقه حملات إعلامية شأنه شأن المشروعات الضخمة، ولكن لا بأس أن نعرض ما عندنا دعماً لهذا البرنامج، وما نعرضه ونطرحه من أهداف ينبغي أن تصب في هذا المجال هو جماع لآراء الخبراء في هذا الشأن، ولحمة هذا الطرح وسداه هو تجميع أكبر كمية من الماء خلال فترة الخريف عبر حفر وتشييد حفائر أو إنشاء سدود على الوديان للاستفادة منها خلال فترة الصيف، وكذلك حفر آبار في المناطق التي يصعب فيها تنفيذ الحفائر، وذلك بالاستفادة من المخزون الكبير للمياه الجوفية التي يمتلك منها السودان خزانات مقدرة منها في كل المناطق تقريباً. ولا بد أن يتضمن البرنامج أهدافاً محددة واضحة المعالم في تنمية الريف اقتصادياً واجتماعياً بهدف تخفيف حدة الفقر وتوليد فرص عمل إضافية لمواطني الريف، والحد من النزوح للمدن والمراكز الحضرية، إلى جانب تنمية الموارد المائية خارج مجرى النيل «مياه الأودية والخيران»، والمساهمة في تحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي من خلال الاكتفاء الذاتي وتحسين الإنتاج الحيواني والزراعي والاستزراع السمكي وتنمية الثروة الحيوانية والغابية والمراعي الطبيعية. كما أنّ هذا البرنامج لا بد أن يتضمن خططاً للحماية من السيول والفيضانات والمحافظة على البيئة وحمايتها من التعديات العشوائية. الكثيرون لا يدركون أهمية المياه في المناطق البعيدة عن النيل وما تسببه ندرتها من إشكالات متعددة، ولذلك فإنه من المناسب أن يضع هذا البرنامج نصب عينيه دعم الأمن القومي وتحقيق الاستقرار كأحد الأولويات القصوى، وذلك لتحقيق الاستقرار وتنمية المناطق الحدودية بتوفير المياه داخل حدود السودان ومع الدول المجاورة. كما أن من متطلبات هذا البرنامج زيادة حصة الفرد في الريف من المياه لتتناسب واستراتيجية البلاد لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. ومن القضايا المهمة في المحافظة على معدلات أمطار عالية تطوير البيئة واستدامتها وترقية الغطاء الشجري والنباتي بزيادة مساحة الغابات سنوياً، إلى جانب التغذية المستمرة للموارد المائية الجوفية المنتشرة في معظم أنحاء السودان، مع تطوير الإنتاج من خلال حصاد المياه الحقلي في مناطق الزراعة المطرية التقليدية، وتطوير نمط الزراعة المروية المعتمدة على المياه الجوفية في ولايات غرب السودان بإدخال نمط مروي يكمل النمط المطري. ولتنفيذ مثل هذا البرنامج هناك متطلبات مهمة، منها تطوير القدرات والأبحاث في مجال حصاد المياه ومشروعات المياه الجوفية والوديان، مع استصحاب الخبرات العالمية والإقليمية والمؤسسات المختلفة والولايات، وتجربة وزارة الموارد المائية والكهرباء والتجارب السابقة للمنظمات، خاصة أنّ هناك منظمات وطنية لديها رؤية متكاملة لمثل هذا البرنامج مثل منظمة سودان فاونديشن، وقد طرحت رؤيتها قبل ثلاث سنوات تقريباً، وذكرت أن هذه الرؤية بالإمكان تنفيذها ضمن استراتيجية الدولة في المجالات الشبيهة. وهذا البرنامج عند تبنيه وطرحه بواسطة الجهات المختصة سيجد دعماً من منظمات عالمية تعمل في مجالات تنمية البيئة وتطويرها على اعتبار أن قضايا البيئة من القضايا التي أصبح المجتمع الدولي يوليها اهتماماً مضاعفاً، كما أن هناك صيغاً تمويلية أخرى تتمثل في استقطاب أموال الخيرين سواء بالتبرع أو التمويل أو الوقف، وذلك لإنشاء مواعين لتخزين المياه مثل الحفائر والسدود والتروس، وكذلك حفر الآبار وإنشاء محطات مياه متكاملة ومشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة المرتبطة بحصاد المياه وإقامة مشروعات مياه الشرب. ويتطلب البرنامج المقترح توفير الخبرات والتجارب وتدريب العاملين في مجالات حصاد المياه والمجالات المرتبطة بها. ووفقاً لتقديرات الخبراء فإن هذا البرنامج بإمكانه استهداف «10» ملايين نسمة لديهم إشكالية في توفر المياه خلال فترة الصيف التي تستمر «6» أشهر، وتؤثر على استقرار الثروة الحيوانية والخدمات الأخرى، وذلك بتوفير وجمع «150» مليون م3 من المياه تكفي حاجة الإنسان والحيوان في الريف على حد تقديرات الخبراء.