لقد ظلت الأمة في حيرة من أمرها بسبب الجدل الدائر حول التصوف والمتصوفة، فالناس في هذا الأمر أصبحوا منقسمين ما بين مادح وقادح واذا استعرضت احوال المتصوفة وجدتهم أهل تقوى وورع وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، واهل صيام وقيام عامرة مساجدهم بالقرآن قراءة وتحفيظاً فاتحة ابوابهم اطعاماً واكراماً ،واذا استمعت الى الذين يعيبون التصوف والمتصوفة لوجدت المتصوفة ما هم الا زنادقة شرعوا من الدين ما لم يإذن به الله مخالفين سلف هذه الامة فضلوا واضلوا وبين هؤلاء واولئك تكمن الحقيقة التي تحتاج الى توضيح. والمعلوم ان المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لهم تسمية الا صحبة رسول الله فقيل لهم صحابة . ثم اهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة بالتابعين ثم قيل لمن بعدهم تابع التابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل للخواص من الناس من لهم عناية شديدة بأمر الدين ( الزهاد والعباد ) ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق فانفرد خواص اهل السنة المراعون انفاسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلات سمي هؤلاء باسم التصوف واستمر هذا الاسم لهؤلاء قبل المائتين من الهجرة. فتناول موضوع التصوف لم يكن للدعاية له او الدعوة اليه لكنه من باب العلم بالشئ ولا الجهل به ولان بعض الناس اضاعوا الوقت في التحدث في تكفير الصوفية وتفسيقهم مع علمهم ان اليهود والنصارى استباحوا ديار المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم يساء اليه ليلاً نهاراً حتى اصبح في الغرب التسمي باسماء المسلمين تهمة وارتداء الحجاب سبة واطلاق اللحية جريمة واقامة المآذن جرم يعاقب عليه القانون، يحدث كل ذلك ولا يحرك في هؤلاء ساكنا لكنهم لا يألون جهدا في التحدث عن الصوفية والتصوف . والتصوف اختلف الناس في اسمه ونسبته فقيل تصوف أي لبس الصوف وقيل انه من الصفاء وقيل المعني بهذا الاسم اهل الصفة وهم فقراء الصحابة الذين كانوا يسكنون مسجد رسول الله لا عمل لهم غير الصلاة والعبادة . لكن هذه الطائفة اشهر من أن تحتاج في تعيينها الى قياس لفظي وتكلم الناس عن التصوف ما معناه والصوفي من هو وكل عبر بما وقع له وسنذكر بعض اقوالهم في ذلك قال احمد الحريري ( التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني ) وقال معروف الكرخي هو الاخذ بالحقائق واليأس فيما في ايدي الخلائق . وسئل ذا النون المصري عن التصوف قال ( قوم آثروا الله تعالى على كل شيء فآثرهم الله تعالى على كل شيء ) وقالوا في الصوفي ( منقطع عن الخلق متصل بالحق وقيل الصوفي كالارض يطرح فيها القبيح وتنتج كل مليح). وقيل اقبح من كل قبيح صوفي شحيح ويقولون يجب ان يكون الصوفي صادقاً في اداء حقوق الله سبحانه وتعالى ثم شفقته ورقته على الخلق في جميع الاحوال ثم انبساط رحمته لكافة الخلق ثم دوام تحمله لهم بجميل الخلق وطلب الاحسان من الله اليهم من غير التماس منهم والهم بنجاة الخلق وترك الانتقام منهم والزهد في اموالهم وترك الطمع بكل وجه فيهم ولا يكون خصماً لاحد منهم في الدنيا والآخرة. وبناء هذا الامر وملاكه قائم على حفظ الشريعة وصون اللسان واليد عن امتدادها الى الحرام والشبهة وحفظ الحواس مع الله عن المحظورات وعد الانفاس مع الله تعالى عن الغفلات وألا يستحل سمسمة فيها شبهة في وقت الضرورة والشدة ودوام مجاهدة النفس في ترك الشهوات وقولهم كذلك في التصوف قال احمد الروزباري ( مذهب التصوف كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل ) وسئل عبدالله الرازي ما بال الناس يعرفون عيوبهم ولا يرجعون الى الصواب فقال لانهم ( اشتغلوا بالمباهة بالعلم والقرآن وترك العمل واشتغلوا بالظاهر ولم ينشغلوا بآداب الباطن فأعمى الله قلوبهم وقيد جوارحهم عن العبادات ). وقال أحمد الدينوري ( لقد نقض كثيرون اركان التصوف وهدموا سبيله وغيروا معانية باسماء احدثوها فقد سموا الطمع زيادة وسوء الادب اخلاص والخروج عن الحق شطحاً واتباع الهوى ابتلاء واقبال الدنيا والحكام عليهم وصولاً وبذئ اللسان ملامتي ومرتكب المحرمات مجذوب فما كان هذا طريق القوم. وقال ابراهيم النصر ( اصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الاهواء والبدع وتعظيم حرمة الشيخ ورؤية اعذار الخلق والمداومة على الاوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. وقال الامام الجنيد ( الطرق كلها مسدودة على الخلق الا على من اقتفى آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدي به في هذا الامر لان علمنا مقيد بالكتاب والسنة ) وقال ابو حفص ( من لم يزن افعاله واقواله واحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال ) وقال السر السقطي ( الصوفي الذي لا يطفئ نور عقله نور ورعه ولا يتكلم بباطن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب والسنة ولا تحمله الكرامات على هتك المحرمات ) . وقال الامام التستري ( اصولنا سبعة اشياء التمسك بالكتاب والسنة - الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - اكل الحلال وكف الاذى - واجتناب الآثام ) وقال ابو يزيد البسطاني ( اذا رأيتم الرجل يطير في الهوى ويمشي في الماء فلا تغتروا به حتى تروه عند الامر والنهي وحفظ الحدود واداء الشريعة). بهذا نكون قد استعرضنا اقوال الصوفية في التصوف وسوف نستعرض اقوال علماء السنة في التصوف والمتصوفة كذلك قال الامام ابن تيمية في معرض الاجابة عن سؤال عن الصوفية والفقراء ( ثم ان الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم ايضا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة وكثير من الناس اذا علم من الرجل ما يحب أحب الرجل مطلقاً واعرض عن سيئاته واذا علم منه ما يبغض ابغضه مطلقاً واعرض عن حسناته وهذا من اقوال اهل البدع وما دل عليه الكتاب والسنة والاجماع ان الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه وما يحمد عليه وما يذم عليه فالمتصوفة تنازع الناس فيهم طائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا انهم مبتدعون خارجون عن السنة . وطائفة قد غالت فيهم وادعوا انهم افضل الخلق واكملهم بعد الانبياء وكل من طرفي هذه الامور ذميم والصواب انهم مجتهدون في طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ومنهم المقتصد وفي كل من الصنفين قد يجتهد فيخطئ ومنهم من يذنب فيتوب او لا يتوب وقال إبن القيم تلميذ ابن تيمية ( ثم اهل مقام اياك نعبد ) ( لهم في افضل العبادات وانفعها واحقها اربعة طرق وهم في ذلك اربعة اصناف الصنف الاول ( عندهم افضل العبادات وانفعها اشقها على النفس واصعبها لانه ابعد الاشياء عن هواها ) والصنف الثاني ( قالوا افضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ) والصنف الثالث رأوا انفع العبادات ما كان فيه نفع الى الغير فرأوا حرمة الفقراء وحرمة الناس وقضاء حوائجهم ) والصنف الرابع ( قالوا افضل العبادات العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى في ذلك الوقت فالجهاد افضل في وقت الجهاد والافضل في وقت حضور الضيف العمل على اكرامه وهؤلاء اهل التعبد المطلق فإبن القيم لم يكفر الصوفية ولم يفسقهم لكنه يحبذ التعبد المطلق دون المقيد هذا وقد اثنى الامام ابن تيمية في الجزء الاول من مجموع فتاويه على الصوفية فقال ( اما المتصوفة من السالكين بجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياط وابراهيم بن ادهم والجنيد وغيرهم ومثل الشيخ عبدالقادر الجيلاني وهم لا يسوقون للسالك ولو طار في الهواء او مشى على الماء ان يخرج عن الامر والنهي والشريعة) . وقال ابن قدامى ( اما علم المعاملة فهو علم احوال القلب كالخوف والرجاء والرضا والصدق والاخلاص فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم كسفيان الثوري وابن حنيفة ومالك والشافعي واحمد وانحطت رتبة المسلمين بالفقهاء والعلماء .عن تلك المقامات لتشاغلهم بصور العلم من غير اخذ النفس ان تبلغ حقائقه وخفاياه هذا قول العلماء في التصوف .........................ونتابع .