في ما يشبه سباق اللحظات الأخيرة كثّفت مصر من جهودها لتلافي الأثر السالب الذي قد ينجم عن اتفاق السلام الشامل - انفصال جنوب السودان عن شماله، فبعد ان رعت مباحثات جادة بين وفدين من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني بقيادة نافع علي نافع، وباقان أموم قبل أيام، هاهي القاهرة تبعث باثنين من قادتها - مدير المخابرات الوزيرعمر سليمان ووزير الخارجية أحمد أبوالغيط - الى الخرطوم لدفع الحوار بين الشريكين ولدعوة الرئيس البشير ونائبه سلفاكير لزيارة مصر على أن تعقبها زيارة للرئيس المصري حسني مبارك لكل من الخرطوموجوبا. وكشفت مصادر، أن الفترة المقبلة ستشهد تحركاً مصرياً قد يكون الأخير، من أجل دعم وحدة السودان، وتأمل القاهرة، بحسب هذه المصادر، أن تساهم في العام الأخير من الفترة الانتقالية في دعم الأطراف السودانية، خاصة شريكي الحكم لبناء وفاق سوداني حول الوحدة وباقي القضايا الأخرى المختلف عليها. ومع تسارع الوقت اقترابا من محطتي النهاية، الانتخابات والاستفتاء. تسارع مصر لاغتنام الفرصة الأخيرة والمحرك الأول لها خشيتها من استنزاف الجهود وإهدار ما تبقى من وقت في الفترة الانتقالية، وعدم استغلال الفرصة الأخيرة المتاحة في بناء استقرار وسلامة ووحدة السودان، فضلا عن مصالحها في كون السودان يمثل عمقاً امنيا واستراتيجياً لها. وينظر بعض المراقبين الى الدور المصري بعين الرضا لأنه جاء في الوقت الحاسم الذي يستدعي تكاتف الجهود للخروج من المأزق الحالي مؤكدين أن مصر قادرة على فعل الكثير لأنها ظلت تحتفظ بعلاقات جيدة مع كل أطراف المعادلة السودانية، ويقول رئيس حزب البعث السوداني محمد علي جادين أن التحرك المصري وإن جاء متأخرا الا أنه مفيد وقد يحقق النتائج المطلوبة مشيرا الى أن مصرتسعى الى تأجيل الانتخابات والأستفتاء وتسعى لاقناع الشريكين بجدوى تأجيل هذين الاستحقاقين (حيث هما الأساس في التحرك نحو المحافظة على وحدة السودان وتحاشي الانفصال) ويشير جادين في حديثه ل الصحافة أمس الى القضية المهمة التي طرحتها مصر على الشريكين لتجاوز كثير من نقاط الخلاف التي يثيرها الجنوبيين وهي مسألة الشريعة الاسلامية، ويقول ان من راي مصر إن كانت الشريعة من أسباب تمسك الجنوبيين بالانفصال فيجب معالجة الاشكال باقامة دولة مدنية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات مشيرا الى أن المخرج في دولة اتحادية تكون فيها التشريعات مدنية وتترك مسألة الشريعة للولايات مستشهدا بما نصت عليه اتفاقية الخرطوم للسلام في هذا الصدد. ويشيد جادين بطرح مصر لهذه القضية المهمة (التي تناقش لأول مرة منذ نيفاشا) مستبشرا بنجاح مصر في مساعيها (اذا شدّت حيلها) خاصة في ظل وجود دور عربي كبير وناجح في دارفور والجنوب مشيرا الى انعقاد مؤتمر للاستثمار العربي في الجنوب. ومع التقدير الكبير الذي يحظى به الدور السياسي المصري من كافة القوى الساسية السودانية الا أن مصر تقابل دوما بالشك في نواياها من قبل كثيرين ويلاحظ الباحث شرف الدين أحمد حمزة أن مصر ظلت على الدوام تتعامل مع الشان السوداني من داخل مقر المخابرات المصرية ويقول في حديثه ل الصحافة أمس ان النظرة الأمنية تسيطر على السياسي المصري الذي يدير ملف السودان، مستشهدا باشراف عمر سليمان على المباحثات التي جرت بمصر في الأيام الماضية بين حزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ويقول حمزة ( ما لم تخرج الدبلوماسية المصرية من مقر المخابرات فلن تتحقق نتائج ايجابية لأي طرف) ناصحا بالتوجه بالعلاقات بين البلدين الى التعاون والتكامل في الأنشطة الاقتصادية (لأن هذا هو الاستثمارالحقيقي الذي يقود لخدمة المصالح المشتركة)، وكان الامام الصادق المهدي دعا لميثاق لوادي النيل يؤسس لعلاقات تسمو فوق الحكومات، وفوق الأحزاب، وتقيم علاقات مستدامة تنطلق من ثوابت الجغرافيا، والثقافة، والمصالح المشتركة. وترسم الطريق إلى اتحاد الأهداف وإن تنوعت مواعين الحكم والإدارة. في المقابل فإن مصر وفي التوازي مع جهودها الرامية للحفاظ على وحدة السودان لا تنسى مصالحها في الجنوب في حال الانفصال وتستصحب معها مساهمتها في تنمية الجنوب، وتؤكد إنها لا تتضرر من قيام دولة مستقلة في جنوب السودان ففي تصريح سابق منسوب لمستشار الرئيس المصري الدكتورأسامة الباز أكد أن مصر وإن حبذت وحدة السودان، فإنها لا تتضرر من قيام دولة مستقلة في جنوب السودان، فمصر ? والكلام للباز - مثلما تعايشت مع السودان ستمدد علاقات طيبة مع الدولة الجديدة، وفي ذات الاتجاه ذهبت السفيرة «مني زكي» مساعد وزير الخارجية المصري للشئون الإفريقية عندما قالت ان موقف بلادها رغم دعمها للوحدة فإن مصر» مستعدة لكل السيناريوهات»بما فيها انفصال الجنوب، وأن المواقف المصرية «مدروسة لكل الاحتمالات». ويشير السكرتير العام السابق لمنظمة الإيقاد السفير عطا الله حمد بشير في ورقة قدمها في منتصف يناير الماضي بعنوان (رؤية لعلاقات السودان الأقليمية والدولية بعد 2011 ) الى أن مصر بادرت - كأول دولة عربية - بفتح مكتب وقنصلية في جوبا لتكون في مصاف الدول المانحة الكبرى وجودا في الجنوب وتمويلا لبعض المشاريع وفتحت فرعا لجامعة الاسكندرية في جوبا ويقول (في منظور هذا الوجود المصري الفاعل في الجنوب فان مصر ستكون اول دولة عربية تعترف بالجنوب. ويبدو ان الدبلوماسية المصرية تدرك أهمية دولة الجنوب التي ستهيمن على مصادر وروافد النيل وتسعى إلى احتوائها بعلاقات ومشاريع مشتركة لترويض حكومة الجنوب القادمة حتى لا ترجح كفة دول منابع النيل الافريقية - كينيا، يوغندا، الكنغو، وتنزانيا - التي تسعى إلى استحواذ جزء من حصص مصر في مياه النيل. ويمضي السفير عطا الله الى القول ان المساعي المصرية لاحتواء دولة الجنوب قد تنجح في استمالة الجنوب ثنائياً إلا ان ذلك لا يعني بأي حال ان الجنوب سينضم الى الحظيرة العربية أو الانضمام للجامعة العربية (فمن المؤكد ان الجنوب بانتماءاته وتوجيهاته الافريقية سيتجه جنوباً الى مجموعة اقليم شرق افريقيا معرضاً ومولياً ظهره للعرب). وبناء على ذلك يتوقع السفير عطا الله ان تعزز مصر علاقاتها الخارجية مع السودان الشمالي عند استقلال الجنوب لاعتبارات ومستجدات كثيرة أهمها ان النيل يمثل شريان الحياة ودونه موت مصر حيث ظل السودان العمق الاستراتيجي لوجود مصر لكونه اكبر معبر للنيل من منبعه الى مصبه في مصر فضلا عن ان معظم موارد وروافد النيل تجري في الاراضي السودانية لتغذية النيل »النيلين الابيض والازرق، بحر العرب، بحر الغزال، نهر الجور، نهر سوبا، نهر عطبرة، وعشرات الخيران والخزانات« و (بانفصال الجنوب ستكون كل هذه المصادر المائية تحت سيادة دولة الجنوب بعد ان كانت جزءا من السودان الذي ظل متنازلا ومضحيا بنصيبه لمصر بل مناصرا لمصر وسط دول حوض النيل العشر التي تناصب مصر لعداء وتطالب تجريدها من حقوقها التاريخية في مياه النيل). ويقول السفير عطا الله ان مصر المدركة لهذه المصالح الاستراتيجية تضع علاقاتها مع الخرطوم كحجر زاوية في سياستها الخارجية مشيرا الى أن مصر قادت مبادرات السلام منذ الخمسينات بدءا من زيارة صلاح سالم الى جوبا في 1955 مرورا بالاتفاقيات السابقة حتى مسار مفاوضات السلام الاخيرة وكان موقفها المعلن والثابت وحدة السودان وضد مبدأ تقرير المصير. وينبه الى ان مصر سعت لايقاف مفاوضات الايقاد وجاءت بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة في الاعوام 2000 2004 بديلا موازيا وبمبادئ خالية من حق تقرير المصير للجنوب. اذن مصر تخوض معركتها الأخيرة في السودان ولكنها متحسبة تماما لكل الاحتمالات، فان نجحت في جلب الوحدة فلها أجر كبير وان لم تنجح فلها أجران.