الزعيم المصري جمال النحاس) بات فى حكم المؤكد ولادة دولة جديدة ،فى غضون أيام قلائل ، فى الجنوب من رحم السودان الكبير،وكبار القوم هناك ما يزالون مختلفين، حول اسم المولود الجديد ومن بين الأسماء المقترحة ( السودان الجديد والجمهورية الاستوائية وجواما وجمهورية النيل) (ويمثل انشطار السودان نموذجا نادرا لإعادة ترسيم حدود الدولة السودانية ، التي خلفت بواسطة بريطانيا المنسحبة خلال القرن المنصرم) بعد أن بذرت بذور الانفصال وها نحن نجنى ثمارها ، وهاهو الجنوب يقتطع من جسد السودان العليل ،الناس فى الجنوب بدأوا احتفالاتهم بالانفصال أو الاستقلال، كما يحلو للكثيرين أن يسموا ما سوف يحدث هناك بعد التاسع من يناير الجارى،المدن الجنوبية تعج وتضج، برجالات ونساء الصحافة المقروءة والمكتوبة والمرئية، وعددهم في( جوبا وحدها) العاصمة المرتقبة للدولة رقم(193) فى العالم ، يفوق السبعمائة صحفي، ينصبون كاميراتهم فى كل مكان ،و عدساتهم ترصد الحجر والشجر والبشر، وتقاريرهم تتصدر وكالات الأنباء العالمية والصحف والفضائيات ، تقدم إليهم المشروبات الروحية المستوردة، خصيصا من الغرب، لهذه المناسبة التاريخية فى الفنادق الجديدة، التي يعمل فيها عدد من العرب واسرائيليون ، يحملون جنسيات غربية ، وأبناء وبنات الجنوب، خاصة فندق( شالوم الاسرائيلي) وكلمة شالوم تعني السلام كما أن اكبر مصنع للبيرة في إفريقيا شيدته الحركة الشعبية بأموال النفط ، يضاعف من إنتاجه لسد حاجة المواطنين وهم يستعدون لاحتفالاتهم الهستيرية.و كثير من التجار الشماليين اقلقوا متاجرهم، ويمموا وجوههم صوب الشمال، خوفا من اندلاع أعمال شغب، وانتقام في غمرة الأفراح التي عمت كل مكان، حتى قبل عملية الاستفتاء . لن يجد المرء ربما شخصا واحدا يردد كلمة( الوحدة )المقبورة ولو في نفسه، كل من يجاهر بها يعتبر خائنا يستحق الشنق والسحل ،والإبعاد خلف قرص الشمس،من كانوا مع( المؤتمرين الوطني والشعبي ) المسلمون منهم والمسيحيون جميعهم، الآن يهتفون في قطار الانفصال الذي وصل محطته الأخيرة، بالانفصال ولا شئ سواه ، الحركة في مطار جوبا دائبة كخلية نحل ، وأزيز الطائرات التي تهبط وتقلع من المطار الصغير يصك الآذان، الغربيون يحطون رحالهم هناك وليس فى مطار الخرطوم ،أسعار السلع في الجنوب اشتعلت وسعرت كما هو الحال في الشمال، في إعقاب اتخاذ وزير المالية الاتحادي حزمة من الإجراءات المسماة تقشفية، ألهبت جيوب مواطني شطري الدولة السودانية ، لمواجهة تبعات الانفصال ،الجنوبيون ربما لم يشعروا بوطأة غلاء الاسعار كأخوانهم فى الشمال من فرط السرور الذي سرى فى أوصالهم وهم ينتظرون اعلان دولتهم فى غضون ساعات من الآن،وزير خارجية السودان على كرتي يعد بأن يكون السودان أول دولة تفتتح سفارة لها فى الدولة الجديدة وما درى المسكين أن اسرائيل وامريكا ودولا اوربية بل وافريقية عديدة سبقته الى الشئ ذاته على ارض الواقع ، نعم ربما يقصد الاعلان عن فتح سفارة وليس شيئا آخر،الجنوبيون ينتظرون شروق شمس الحرية، والغد الأخضر الزاهر، والجنة التي وعدتهم بها الحركة الشعبية، إن صوتوا للانعتاق من ربقة الشمال ، (و نحن نخشى أن يقود غلاء الاسعارإلى فوضى وغضب شعبي عارم فى الشمال ، كما حدث الأسابيع الماضية في تونس بسبب الغلاء والبطالة وكما يحدث حاليا في الجزائر بسبب الغلاء ايضا ) هذا إن نجحت القوى السياسية خاصة المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي وحزب الامة بقيادة الامام الصادق المهدي والشيوعيون وغيرهم فى تحريك الشارع ،لكن يقيني ان الشعب السوداني من شدة الاحباط الذى اصابه لم يعد قادرا على الذهاب الى الشارع ناهيك عن القيام بثورة وعصيان مدني لاسقاط حكومة هدد مدير جهاز امنها ومخابراتها انهم سوف يضربون بيد من حديد كل من يحاول زعزعة الاستقرار والامن فى البلاد ،وفى الشمال أيضا فقد اختفى أكثر من مليوني جنوبي،فى ظروف غامضة (ذابوا كفص ملح فى بحر لجي )واحتموا بمنازلهم، فيما لا يزال آخرون عالقين بين كوستيوالخرطوم ومدن الجنوب، بعد أن تقطعت بهم السبل ، حيث ترى الحركة الشعبية انها ليست بحاجة إلى أصواتهم، فما لديها من أصوات المقيمين فى الجنوب ،يكفي لتشطير السودان وزيادة،وقد كان المؤتمر الوطني يعول على هؤلاء، فى ترجيح كفة الوحدة ،التي لم تعد يتيمة فحسب ، بل شبعت موتا ،وربما لا ننتظر من يحييها، رغم تصريحات الرئيس البشير، وتصريحات السيد ياسر عرمان الخجولة فى هذا الصدد . الأمريكان والاسرائليون أكثر الناس فرحا بقرب ولادة الدولة الجديدة .فقد وصلت طلائعهم وجحافلهم ، إلى جوبا للاحتفال مع أهل الجنوب، بهذه الولادة ،التي طالما عملوا لها ليلا ونهارا ،حتى تحقق لهم ما أرادوا ،وكان احتفاؤهم بتصريحات البشير فى جوبا ،خلال زيارته الأخيرة ،والتي بدا مسلما فيها بالانفصال، مبديا استعداده للاحتفال معهم، بهذا الخبر السعيد لهم، المحزن للبشير ولأهل الشمال جميعا ،وهكذا سنة الله والأيام دول ،وقد قال الرئيس البشير:إن شمال السودان وجنوبه يمكن أن يشكلا اتحادا على نمط( الاتحاد الأوروبي)إذا اختار الجنوبيون الانفصال في الاستفتاء(الذي بدأ أمس الأحد). وقال في حديث إلى قناة الجزيرة بثته مساء الجمعة:أن الجنوبيين يمكن إن يحصلوا على حقوق( حرية الحركة ،والإقامة، والعمل ،والتملك في السودان بعد الانفصال) وهى القضايا التي كان يتخوف منها مواطنو الجنوب المقيمون فى الشمال، مما حدا بعشرات الآلاف منهم للرحيل إلى الجنوب، سيما فى أعقاب تصريحات مثيرة للقيادي في المؤتمر الوطني، ووزير الإعلام د/ كمال عبيد،والتي قال فيها(إنهم لن يأخذوا حقنة واحدة في حال تصويتهم لخيار الانفصال) لكن البشير قطع بأنهم(لا يمكن أن يكونوا مزدوجي الجنسية). وأنهم سيمنعون من تقلد وظائف حكومية وقال البشير: انه لا يتحدث عن اتفاقية للدفاع المشترك، وان المناقشات تدور بين الجانبين بشأن «قيام( اتحاد بين الشمال والجنوب) لرعاية المصالح المشتركة،سواء كانت أمنية،أو سياسية أو اقتصادية و ضرب مثلا بالاتحاد الأوروبي». وقال إن هناك حاجة للاتفاق بشأن( «الحريات الأربع») في إشارة إلى اتفاق يمنح المصريين حقوقا في السودان ومن بينها حق( الإقامة والعمل والدخول بدون تأشيرة وحق التملك والتجارة.) وأشار إلى أن مفاوضات تجري بينهم والجنوبيين بشأن قضايا عديدة (كترسيم الحدود،وعائدات النفط ،وآبيي) وغيرها من القضايا ،التي سوف تؤرق لا محالة مضاجع قادة الدولتين،.وبالتالي فوجود الجنوبيين فى الشمال سوف يكون بمثابة لجوء، تحكمه قوانين دولة الشمال، وقوانين اللجوء الدولية.وكلام الرئيس واضح لا غموض فيه، ولذلك سيكون أمام الجنوبيين واحد من خيارين:إما أن يبقوا في الدولة الشمالية كلاجئين، وإما عليهم حزم أمتعتهم، والمغادرة فورا إلى دولتهم الوليدة، فى الجنوب حتى لا تضيع حقوقهم في الشمال والجنوب معا ، ومن حق الدولة الشمالية أن تمنح من تشاء من مواطني الجنوب جنسيتها، كما من حق الدولة الجنوبية أن تمنح أو تمنع جنسيتها عمن تشاء ،وقد قطع السيد سلفاكير ميارديت النائب الاول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب بضرورة التعايش مع الدولة الجديدة ، وستكشف الايام المقبلة عما اذا كنا بصدد الدخول فى اتحاد بين دولتي السودان الشمالي والجنوبي أم سوف نشهد تعايشا بينهما ،ام سوف ننزلق معهما الى أتون حرب لاتبقي ولاتذر. البشير حذر فى حديثه لقناة الجزيرة ، قبيلة دينكا نقوك الجنوبية من مغبة ضم منطقة آبيي المتنازع عليها بين الجانبين الى الجنوب بقرار آحادي ،مشيرا إلى أن ذلك قد يؤدي إلى صراع.بل إلى حرب ،وهو ما سيخلط كل الأوراق، ويعيد الأمور إلى نقطة الصفر، ما لم يتحمل الطرفان بأقصى درجات ضبط النفس ،خلال مفاوضاتهما بعد الانفصال والتي سوف تكون شاقة وعسيرة، ودعا البشير إلى ضرورة أن يظل الوضع الراهن في ابيي كما هو، حتى الوصول إلى حل مرض للجانبين، مبينا أنهم استطاعوا من خلال الحوار وضع حد لأطول حروب القارة الأفريقية، وبإمكانهم إيجاد حل لقضية آبيي،لكن الخشية كل الخشية ان تتحرك قبيلة دينكا نقوك بإيعاز من قادة الحركة، من أبناء المنطقة بضم المنطقة الى الجنوب دون الاتفاق بشأن اجراء استفتاء فيها،وتحديد من يحق لهم المشاركة فى الاستفتاء من مواطني (دينكا نقوك والمسيرية؟) ويلحظ المرء رغم اجواء الهدوء التى تسبق الاستفتاء واللغة الاعلامية المخملية المتبادلة بين قادة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ان نذر الحرب تبرق فى اكثر من صعيد وكل قضية من القضايا كفيلة بايقاد فتيلها . مصر والسودان: بدا واضحا منذ زيارة الرئيس المصري، حسنى مبارك لجوبا، قبل عام أن مصر لا يهمها من أمر السودان،سوى ضمان وصول شريان الحياة إليها (النيل) وفى سبيل ذلك شيدت مصر الرسمية مصانع للخمور وقدمت عيادات متنقلة، وزودت بعض المدن الجنوبية بمولدات كهرباء، وخدمات تعليمية وغيرها ، ولم يكن أمام النظام المصري سوى أن يغازل قادة الحركة الشعبية بكل السبل، ويتودد إليهم حتى لا تتضرر من تداعيات الانفصال،ولعل وجود الخبراء المصريين فى مجالات عدة ، والعمال وغيرهم ما يؤكد أن مصر فعلا مهمومة بقطرات الماء، ولا يهمها أن يتمزق السودان إلى عدة دويلات، لأنه ببساطة لم يعد ظهرا لأمنها،وحسنا فعلت سلطات الأمن السودانية حين حجزت معدات التلفزيون المصري،الذي أعد استديو به خلفية تحمل خريطة للسودان، لا تتضمن منطقة حلايب المتنازع عليها بين البلدين، ويتمثل الخلاف بين مصر والسودان على مثلث حلايب في الاتفاقية التي وضعت إبان الاحتلال البريطاني للبلدين عام 1899، وحددت مثلث حلايب داخل الحدود المصرية، لكن في عام 1902 قامت بريطانيا بجعل المثلث تابعا للإدارة السودانية ،لأنه أقرب إلى الخرطوم من القاهرة. وتبلغ مساحة هذه المنطقة التي تقع على البحر الأحمر نحو 21( ألف كيلومتر مربع) وتضم ثلاث بلدات كبرى وهي حلايب وأبو رماد وشلاتين، وقد ظلت المنطقة تابعة للسودان منذ عام 1902. لكن النزاع عاد مرة أخرى عام 1992 ،عندما اعترضت مصر على إعطاء السودان حقوق التنقيب عن النفط في المياه المقابلة لمثلث حلايب، لشركة كندية، فقامت الشركة بالانسحاب حتى يتم الفصل في مسألة السيادة على المنطقة. على الحكومة السودانية أن تسعى لتحريك هذا الملف بالحكمة المطلوبة، لا أن ترضخ لسياسة الأمر الواقع،التي يتبعها النظام المصري ، نعم مصر احتلت حلايب بالقوة،ومنعت الحكومة السودانية من اجراء انتخابات فيها مؤخرا، ولكن هذا لا يبرر لتلفزيونها أن يأتي إلى الخرطوم بخارطة مقطوع منها حلايب ، ثم لا ينتظر أن لا يقول له احد فى السودان شيئا ، فإن عجزت حكومتنا عن استرداد المغتصب من أرضنا، كما عجزت عن إبقاء السودان موحدا، فلا يعني هذا بحال من الأحوال أن تفعل الشئ نفسه أجيال السودان القادمة، فستظل حلايب سودانية حتى لو اصاب الخور والضعف هذه الحكومة، وقد يعود الجنوب إلى حضن السودان، ولو بعد حين. يقول أحد حكماء الصين : ( حينما ينغلق أمامك باب الأمل.. لا تتوقف لتبكي أمامه طويلاً، لأنّ في هذه اللحظة انفتح خلفك ألف باب تنتظر أن تلتفت إليه) كيف تختار امرأتك؟ سئل حكيم كيف تختار زوجتك؟ فأجاب : لا أريدها جميلة فيطمع فيها غيري، ولا قبيحة فتشمئز منها نفسي، ولا طويلة فأرفع لها هامتي، ولا قصيرة فأطأطئ لها رأسي، ولا سمينة فتسد علي منافذ النسيم، ولا هزيلة فأحسبها خيالي، ولا بيضاء مثل الشمع، ولا سوداء مثل الشبح، ولا جاهلة فلا تفهمني، ولا متعلمة فتجادلني، ولا غنية فتقول هذا مالي، ولا فقيرة فيشقى من بعدها ولدي.وأنت عزيزي القارئ كيف تختارها ؟ كاتب وصحافي سوداني مقيم في قطر: