شاءت الظروف ان ادعى الى ندوة في مدينة اديس ابابا عاصمة الهضبة الاثيوبية او مارد الهضبة كما يحلو للصديق د. النور حمد ان يصفها. فلبيت الدعوة مشكوراً اذ انني اجد متعة كبيرة عندما اهبط الى هذه البلاد التي ارسل اليها رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلم صحابه اليها وقال لهم ان بها ملك لا يظلم عنده احد. ويثيرني كثيراً في هذه البلاد العريقة التي لا يقل سكانها عن 87 مليون نسمة ولديهم 58 لغة ينتشرون في مقاطعات عدة لكل منها طابعها الخاص ونشاطها الاقتصادي الخاص بها ايضاً. ونجد في اطار ذلك تنوعاً اثنياً رائعاً وأخاذاً قل ان تجده في مكان آخر. بل اهم من هذا كله ذلك التعايش والتسامح الرائعين بين المسيحيين والمسلمين والآخرين لا يقلون عن «04%» من جملة سكان البلاد، بل انه ليس من السهل تحديد من هو المسلم ومن هو المسيحي بدقة. بل انك تجد في العائلة الواحدة خليطاً من الإثنين يعيشون مع بعضهم البعض بل ويأكلون في مائدة واحدة، انه تناغم رائع لا تجد له مثيلاً اليوم. الاستثمار السوداني في إثيوبيا: برغم انبهاري بهذه النواحي الثقافية والانمائية لهذا البلد العريق فانني اجد نفسي مهتماً بقضايا البنية الاقتصادية والاجتماعية والمحاولات الجادة لتخفيف الفقر خاصة في الريف الاثيوبي. هذا وتعتبر اثيوبيا من اكثر الدول الافريقية سرعة في النمو. ويرجع اهتمامي الى هذه الناحية من انني عضو كامل العضوية في اتحاد الاقتصاديين الاثيوبيين منذ حوالي ست سنوات خلت. هذا الاتحاد يجد اهتماماً كبيراً من الدولة والعديد من المؤسسات المالية الاقليمية والعالمية، وبالرغم من مساندة الدولة لهذا الاتحاد الا انه يظل مستقلا استقلالاً كاملاً يسهم في الحياة الاقتصادية بالعديد من الدراسات الجزئية والكلية لكل النشاطات الاقتصادية والاجتماعية بمهنية عالية. ودولة اثيوبيا تذخر بالعديد من الاقتصاديين والاجتماعيين الذين لديهم فهم عميق لمعظم مشاكل القطر خاصة المجال الزراعي لذلك ليس غريباً ان تكون اولى اولويات اثيوبيا في خطتها الحالية هو النشاط الزراعي والتصنيع الزراعي وكل ما يتعلق به من نشاطات اخرى خاصة وان معظم سكان البلاد يعملون بالزراعة ويعيشون في الريف مع قلة في المناطق الخصبة بعكس العديد من الدول الافريقية. ان التركيز الزراعي ينبع من ان اكثر من 06% من السكان البالغ عددهم 87 مليون نسمة يعملون في الزراعة. ان هذا التركيز جاء من زمن بعيد ولكنه اخذ منحى اكثر جدية في السنوات الماضية. وفي نفس الوقت نجد ان لديهم اهتمام باستخراج النفط ولكن ذلك يسير بصورة بطيئة وبحذر شديد وهدفهم الرئيسي هو تثبيت النشاط الاقتصادي للغالبية العظمى من اهل البلاد. ويشير الىّ بعض الاقتصاديين انهم لا يريدون تكرار التجربة السودانية التي تم فيها استغلال النفط مع اهمال بين للزراعة!! وفي اطار سياساتها الاقتصادية فان دولة اثيوبيا استطاعت اجتذاب العديد من المستثمرين الاجانب من المنطقة العربية ودول جنوب شرق آسيا وذلك عبر خلق مناخ استثماري وحوافز ممتازة تنفذ بجدية وحذق كاملين، بل بايقاع سريع غير عادي تحدد كل خطوة بالساعات وليس بالايام والشهور كما هو الحال بالنسبة لبعض الدول. منذ اكثر من عقدين بدأ رجال الاعمال السودانيون الاتجاه نحو اثيوبيا وبخاصة في العقد الاخير وبرغم اكتشاف وتصدير البترول في السودان. هذا وقد بلغ عدد المشروعات التي نفذها السودانيون حتى الآن 107 مشروع في مجالات عديدة. وفي الطريق عدد كبير من رجال الاعمال والمعاشيين السودانيين يرغبون في الاستثمار في اثيوبيا خاصة المناطق التي تتاخم الحدود الغربية لاثيوبيا مع السودان كمنطقة بحر وار. وفي تقرير في نشرة اثيوبيا في سبعة ايام والتي تصدر في اديس ابابا باللغة الانجليزية تقول بان المستثمرين من المملكة العربية السعودية يأتون في المقام الاول ب 05 مليار بير «الدولار=71 بير» وذلك خلال الخمس سنوات الماضية. تأتي بعد ذلك الهند ب «5،93» مليار بير ثم الصين ب «8،71» مليار بير ثم السودانيون ب 7.71 مليار بير ثم الاتراك ب 2،21 مليار بير. أي ان استثمارات السودانيين تساوي استثمارات الصينيين بفارق 10،0%!! اما بالنسبة لحجم المشروعات المنفذة في اثيوبيا فنجد ان للصين 5601 مشروعاً ذات كثافة في العملة يليهم السودانيون وعدد مشروعاتهم المنفذة بلغ 107 مشروع كما ذكرنا. ويشير المسؤول الاستثماري بان هذه المشروعات بواسطة الاجانب وكذلك الوطنيين ادت الى خلق 37،1 مليون وظيفة جديدة خلال الخمس سنوات الماضية. اي بمتوسط تدفق للاستثمارات الاجنبية ب 52% خلال الخمس سنوات الاخيرة. ان اتجاه هذه الاستثمارات هي في اتجاه المصانع، المقاولات، التعليم، الصناعة، الزراعة، الفنادق، والمطاعم اتجاهات اخرى. ويعزى المسؤول عن الاستثمار في اثيوبيا هذه التدفقات الى جودة مناخ الاستثمار وكفاءة الخدمات الملحقة بهذه الاستثمارات. اضافة الى انه يعزي هذا الى نجاح الاستراتيجية الرامية الى نجاح هذا النشاط بواسطة الهيئة المسؤولة عن الاستثمار وايضاً سفارات دولة اثيوبيا في الخارج. واذكر انني سألت السيد تالهون المسؤول عن ترويج الاستثمار عن من هم احسن المستثمرين الاجانب لديهم؟ فاندهشت عندما قال لي كلمة واحدة ولم يزد: السودانيون. واعتقادي بالرغم من انني لم ادرس بالتفصيل احوال هذه المشروعات التي نفذت هو سهولة اندماج السودانيين في المجتمع الاثيوبي. اضافة الى المستوى المنخفض للقوى العاملة المدربة والملتزمة بالعمل بصورة جيدة. وهذا يؤدي الى خفض تكاليف الانتاج مقارناً بالسودان... وهذا ايضاً يمكن ان يؤدي الى تزايد تبادل السلع بين البلدين في المدى المتوسط والبعيد. بهذا ربما يصبح هؤلاء الرواد المستثمرون من السودان ادوات ايجابية تعمل على تقريب بين البلدين نحو تعاون وترابط اوفق بما حادث الآن. ان السودان يمر بمرحلة فاصلة بين شماله وجنوبه، فان حدث ان اختار اهل الجنوب الانفصال وهو احتمال اصبح كالحقيقة، فاننا نعتقد باننا لا بد ان نستعجل التفكير الجاد في تعميق العلاقة بين السودان واثيوبيا ليس فقط لان النيل الازرق يمثل 68% من مياه النيل ويمر جزء كبير منه داخل السودان، وبالسودان اراضٍ زراعية ممتدة واثيوبيا بها اراضٍ ولكن ليست بقدر ما هو متوفر للسودان، وانما لان هنالك عدة عناصر يمكن ان تسهم في خلق روابط اعمق واقوى مما هو حادث الآن. لقد قدر ان ينفصل جنوب السودان عن السودان كما هو معروف الآن، فان السودان سيجد نفسه بين دولة جديدة في جنوبه لم تتضح معالم اوضاعها وسياساتها المستقبلية نحو شمال السودان بعد وبين دولة هي مصر التي لم ترغب يوماً ما ان يكون السودان دولة قوية ذات مكانة اقتصادية وسياسية فعالة في المنطقة، وفي التاريخ شواهد عديدة على ذلك. في هذه الحالة فانه كلما قويت علاقة شمال السودان باثيوبيا الى مستويات عالية ستكون تلك الصلة القوية بمثابة صمام أمان نسبي لشمال السودان. وسوف نفصل هذا الامر في مناسبة اخرى. حاشية: حدثني صديق من الهضبة شاءت ظروف البلاد على ايام منقستو ان يفر الى شرق السودان وبالتحديد في مدينة القضارف حيث عمل مع احدى المنظمات العالمية التي كان لها وجود وسط الاثيوبيين المهاجرين بمنطقة القضارف.. يذكر ان الرئيس الراحل جعفر نميري كان زائراً لاحدى التجمعات هناك وفي وجود عدد كبير من المسؤولين السودانيين وقال مرحباً بالاثيوبيين بانهم اخوة لنا دفعتهم الظروف ان يصبحوا لاجئين، عليه فان كانت لدينا رغيفتان فلنعطهم واحدة والاخرى لنا لانه لا ندري فلربما نواجه نفس المصير يوماً ما!! والله من وراء القصد