ما كان أحد يتوقع أن تنفجر الأحداث في تونس الخضراء بالشكل التي وقعت به في أعقاب حادثة صغيرة في عرف الاستبداد العربي، وهي حرق أحد الباعة المتجولين نفسه «محمد بوعزيزي» بعد أن ضاقت به الدنيا. فلم يجد وظيفة تناسب شهادته الجامعية ولا تركته السلطة القاهرة يأكل من خشاش الأرض عبر درداقة يدوية يبيع بها الخضار حتى يعول أسرة كبيرة العدد «تسعة أفراد أحدهم معاق» هو المسؤول عن معيشتها، وأهانته شرطية البلدية بحجز بضاعته وضربه أمام الملأ، ثم إنه لم يستطع مقابلة مسؤول في الولاية يشكو له مظلمته، فهو في نظرهم حشرة صغيرة لا تستحق الاعتبار!. وإذا بتلك الحشرة المنبوذة تتسبب في إحداث ثورة سياسية غيرت وجه التاريخ في تونس رأساً على عقب، وزلزلت عروش الملوك والرؤساء في العالم العربي، وأخافت الدول الغربية التي تحتضن وتمالئ الأنظمة العربية المستبدة، وستضطر تلك الدول للبحث عن سياسة جديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط الساخنة. ومازالت تداعيات الأحداث في تونس مستمرة لا يعرف أحد أين سترسو سفينتها في مقبل الأيام. لقد أدت الأحداث حتى الآن إلى هروب الرئيس بن علي خارج البلاد منهياً فترة حكم باطشة استمرت «23» عاماً كان يريدها مدى الحياة، وأفرجت الحكومة الانتقالية التي ورثته عن كل السجناء السياسيين، وسمحت لكل الأحزاب المحظورة بما فيها الإسلاميون بمزاولة النشاط السياسي، وفصلت بين الحزب الحاكم والدولة، ووضعت يدها على الممتلكات العامة التي استولى عليها الحزب، وجمدت أرصدة أسرة بن علي التي نهبت أموال الشعب واستولت على أهم قطاعات الاقتصاد، واستقال الوزراء وعدد كبير من شخصيات التجمع الدستوري الديمقراطي من عضوية الحزب وأجهزته القيادية، مما أدى إلى حل الحزب لمكتبه السياسي ولجنته المركزية. ومازالت الجماهير الغاضبة تطالب بالمزيد من الإجراءات، فهي تريد حظر حزب التجمع الذي يحكم البلاد منذ عام 1987م حين استولى بن علي بمؤامرة محبوكة على الحكم ضد أول رئيس للجمهورية الحبيب بورقيبة، وتريد إبعاد كل الوزراء الذين ينتمون إلى التجمع من الحكومة الانتقالية التي يشكلون أغلبيتها. والسؤال هو: لماذا بدت أحداث تونس غريبة وغير متوقعة، بالرغم من أن النظام كان يتسم بكل الصفات التي تدعو إلى كراهيته والثورة عليه؟ لقد استقر الحكم للرئيس بن علي مدة طويلة منذ عام 1987م، واستطاع أن يزيد عضوية حزب التجمع الدستوري الديمقراطي حتى قيل أن عضويته بلغت أكثر من مليوني شخص، ودمج الحزب في كل أجهزة الدولة، حتى أصبحت أجهزة الدولة خاضعة لسيطرة الحزب، وقمع كل الأنشطة السياسية والإعلامية التي تهدد سلطة الحزب، خاصة من قبل الإسلاميين واليساريين الذين يجدون تأييداً في أوساط الشباب، وأسس جهازاً أمنياً خانقاً لكل نشاط يمكن أن يخرج عن السيطرة، وتحالف مع الغرب والولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب وضد التشدد الإسلامي وضد معاداة إسرائيل، مما جعله مقرباً للدول الغربية رغم انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان «صنفت تونس رقم 144 من بين 167 دولة في مؤتمر الديمقراطية للايكونومست عام 2010م، ونحو ذلك في سلم رعاية حقوق الإنسان». وفي سياسته لتجفيف منابع التشدد الإسلامي منع بن علي النساء من ارتداء الحجاب «غطاء الرأس»، وأوقف تدريس التربية الدينية في المدارس، وتطويل اللحى للرجال، وبث أية برامج دينية من الإذاعة أو التلفزيون «كان حدثاً مفاجئاً للتونسيين أن رفع الأذان أثناء المظاهرات الأخيرة من التلفزيون الرسمي لأول مرة منذ عهد بورقيبة قبل 50 سنة، فاصطف عدد من الشباب للصلاة في الشارع فرحاً بسماع الآذان»، بل حاصر المصلين في المساجد، وجعل لكل شخص بطاقة ممغنطة يصلي بها في المسجد الذي يجاوره. إذن كيف قامت هذه الثورة الشعبية العارمة التي أدت إلى تغيير النظام؟ ابتدءاً نقول إنها ثورة الشباب من دون الثلاثين في العمر، ولم تقدها الأحزاب السياسية الموالية أو المعارضة ولا منظمات المجتمع المدني، بل قادتها جموع الشباب الغاضبة دون تخطيط مسبق، وقد اتسمت المظاهرات بصفات الشباب من حماسة دافقة وجرأة في المواجهة رغم شدة القمع الذي تعرضت له، وسرعة في الحركة، وإتباع أسلوب الكر والفر مع الشرطة، واستغلال إمكانات الإنترنت الهائلة في التواصل بين المجموعات المختلفة، مستغنين عن وسائل الإعلام التقليدية الخاضعة لمراقبة السلطة. والشباب التونسي يتمتع بقدر كبير من المستوى التعليمي الجيد مقارنة ببقية الدول العربية، وهو مطلع ومتواصل مع الشباب في فرنسا وأوربا، ومنفعل بحركاتها الاشتراكية والليبرالية، لذلك لا يستسيغ الرأسمالية العشوائية التي كرَّست الثروة لدى قلة من الناس «ثلاث عائلات فقط تسيطر على الاقتصاد التونسي، منها عائلة زوجة بن علي ليلي الطرابلسي التي قيل إنها هربت بطنٍ ونصف من الذهب»، وقد تمكنت من تلك السيطرة بالنفوذ السياسي والفساد المالي. ولا يقبل الشباب كبت الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وغياب العدالة الاجتماعية والقضائية في المجتمع. وتظهر نعومة الثورة الشبابية أنها كانت سلمية بمعنى الكلمة، فلم تخرب الممتلكات العامة، ولم تعتدِ بصورة عامة على رموز النظام وأجهزته القمعية، عدا بعض حوادث النهب التي قيل إن وراءها بعض المليشيات الحكومية السرية، وقد كوَّن الشباب لجاناً شعبية لحماية الناس والممتلكات من عبث تلك المليشيات. وأحسب أن نجاح الانتفاضة الشعبية يعزى أيضاً إلى موقف الجيش التونسي الذي رفض التصدي للمتظاهرين بالقوة، رغم إعلان حالة الطوارئ من قبل الرئيس بن علي، وجاء في بعض وسائل الإعلام أن الجيش خيَّر بن علي بين الرحيل ومغادرة البلاد أو إطاحته التي قد تنتهي إلى محاكمته، فاختار الديكتاتور الجبان الرحيل سراً في جوف الليل. وقد تكون قيادة الجيش طرحت فكرة رحيل الرئيس على الاتحاد العام للشغل «اتحاد العمال» الذي يتبع للحزب الحاكم، ومع ذلك شارك في المظاهرات الجماهيرية وأعطاها زخماً كبيراً، وأيضاً على بعض رموز الحزب مثل محمد الغنوشي رئيس الوزراء لعشرين سنة في عهد بن علي. ولا يستبعد أن اتفقت الأجنحة الثلاثة على ذهاب الرئيس وبقاء النظام تحت سيطرة الحزب كما كان، لذلك أبقى الغنوشي ستة من وزراء الحزب في أهم المواقع السيادية والاقتصادية. ولكن حركة الشارع الهادر لا تعمل وفقاً للاتفاقات السرية في الغرف المغلقة، ومصيرها أن تدفع بالحزب خارج الساحة السياسية، ويكفيه عجزاً أنه لم يخرج للدفاع عن نظامه..!! وتحمل ثورة تونس الناعمة دروساً قاسية لكل من مصر والجزائر والمغرب وليبيا واليمن والأردن وسوريا والسودان، حيث تجتمع عندهم كل النقائص التي اجتمعت في حكم بن علي: غياب الحريات، الفساد المالي، غياب العدالة الاجتماعية والقانونية، انتهاك حقوق الإنسان، الحكم المتطاول لشخص واحد، الفقر والبطالة. ومن الخير للدول الغربية التي تدعي مناصرة الحريات ورعاية حقوق الإنسان، أن تأخذ الدرس والعبرة، فلا تُعين هؤلاء الطغاة المستبدين للبقاء في الحكم سنين عددا رغم أنف شعوبهم.