تاريخ السودان تاريخ بلد مضطرب وشعب متقلّب المزاج السياسي، ولذا فهو دائماً يخرج من (المعلوم) المرفوض إلى (المجهول) الحالم! وبين الرفض والحلم ضاعت 56 عاماً من عمر هذا الشعب الصابر الذي وقع طوالها بين مطرقة العسكريين (المغامرين) وسندان الحزبيين (الفاشلين)!! والشعب من كليهما برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فإن البلاد قد أُبتليت بشعب بلا قادة إلا من كان همهم البقاء على كراسي السلطة! أما ماذا يفعلون بها؟ فإنهم لا يعلمون!! ودعني أضرب مثالاً حيّاً بعبقرية (الفرد) السوداني حتى ولو لم يكن حاملاً للدرجات العلمية العالية أو لم يكن ممن ينتسب إلى طبقة (الدكاترة) التي أصبحت تضج بها الوزارات والمؤسسات والمؤتمرات والقنوات الاعلامية - بعد أن هجروا كراسي الأستاذية بالجامعات - دون أن نرى لهم (طحناً)!! فافتقدهم الطلاب ولم يكسبهم المواطنون! ففي يوم من عام 1988 كنت راكباً عربة أجرة من مدينة الشارقة إلى مدينة دبي بدولة الامارات العربية يسوقها اماراتي عجوز من الذين عامروا إنشاء الدولة في أخريات ستينات القرن الذي مضى، فطفق يحكي لي عن مبتدأ امارة دبي فقال لي ونحن على مشارف المدينة: أترى عمارة (الغرير) تلك؟ وهو يشير إلى عمارة ضخمة تتوسط مدينة دبي تتألف مما يقارب السبعة طوابق ولها أكثر من خمسة مداخل وبداخلها سوق كامل! قال محدثي: هنالك كانت (خيمة) البلدية، وكان هناك مدير للبلدية من (ربعكم) - أي سوداني - يسمى كمال حمزة يستخرج لنا تصديقات الأراضي والبناء ويشرف على تخطيط المدينة والعمران! كمال حمزة هذا لم يكن سوى (ضابط اداري) هاجر إلى الدولة الوليدة آنذاك بينما كان الناس يسكنون الخيام ويشربون المياه الراكدة بعد تصفيتها من الهوام والزبد - كما تقول الروايات - فإذا به يشرف على توزيع الأراضي والتعاقد مع الشركات وتخطيط مدينة دبي الحديثة وعمرانها! ولهذا عرف له حكام دبي من آل مكتوم هذا الفضل فظلّ مديراً للبلدية لسنوات طوال، وحتى عندما تم (توطين) الوظيفة ظل مستشاراً لحاكم دبي ولعله لا يزال!! مواطن سوداني (واحد) كان له الفضل في بناء مدينة دبي بكل صخبها وضجيجها ومدنيتها التي باتت تتحدى بها مدن العالم كله، لا الشرق العربي وحده!! وهكذا يمكن (للعبقرية) السودانية أن تصنع المعجزات إذا ما أُعطيت الفرصة وأُتيح للقدرات الذاتية أن تتفجر دون طلاء الولاء السياسي والعصبية الجهوية. فكم من (الدكاترة التنظيريين) الذين تمتلئ بهم المؤسسات والقنوات الفضائية (والسياسيين المحترفين) Professional Politicians يستطيعون القيام بواحد في المائة (1%) فقط مما قام به كمال حمزة؟! ومع كل ذلك تستمرئ قياداتنا هواية دورة الحكم الخبيثة بين العسكريين والمدنيين التي أقعدت البلاد نصف قرن كامل جعلها دوماً في (انحدار) بينما بلاد الدنيا كلها. شرقاً وغرباً - في (صعود)، وفي كثير منها بجهد السودانيين مهاجرين إليها! فلا تكاد تجد بلداً في هذا العالم الواسع حلّ به سودانيون إلا ويُضرب بهم المثل في الصدق والأمانة والتواضع والأنفة والجدّ والاخلاص في العمل، بينما كدنا أن نفقد كل هذه الصفات في داخل بلادنا!! أصبحنا كشجرة الدليب تمنح ظِلّها (للبعيد) وتحرمه عن (القريب)!! لماذا؟! انني أتهم أولاً وأخيراً ساستنا وقياداتنا وحكوماتنا بأنهم هم الذين أوردوا البلاد والعباد هذا المصير المأسوف بسياساتهم ومواقفهم اللامبالية إلا ببقائهم على كراسي السلطة حكاماً كانوا أو معارضين. والآن قد انتهت سياسة (تجاهل الأزمة) المتطاولة منذ عام 1955م بفصل ثلث البلاد وأكثرها غنىً وثروةً! وتكاد ترحل (الأزمة) شرقاً وغرباً وكأن ساستنا وقياداتنا - على طول التاريخ - تلاميذ (أغبياء) لا يفهمون الدروس إلا بالتكرار، ولعلهم حتى بعد التكرار لا يفهمون! إن عبارة (من أين جاء هؤلاء) تكاد تنطبق على كل قياداتنا السياسية طوال الستة والخمسين عاماً التي خلت منذ أن رحل الاستعمار. فإنهم لا يكادون يشبهون هذا الشعب العبقري الصابر المتواضع الأمين الذي لا يكره شيئاً ويحتقره مثل ما يكره ويحتقر الغباء السياسي والجزع والتكبر والكذب في القول والعمل! فمن أين جاء هؤلاء (حقاً)؟! انظروا إليهم اليوم وهم يقفون على حافة قبر الجنوب يتعاركون على ما بقى من البلاد حتى قبل أن يتم دفن جثمان القتيل! أي نوع من الورثة هؤلاء؟! وانظر إلى اهتماماتهم في هذا الوقت العصيب! فلا أحد من أحزاب المعارضة يقدّم دراسة مفصّلة عن حلّ مشكلات ما بعد الانفصال! لا أحد يقدّم رؤية علميّة للوفاق؟ لاأحد يطرح أفكاراً عمليةً حول حلّ مشكل دارفور والأزمة (الصامتة) التي تدور في الشرق بصدد أموال (المانحين) أتدخل في جيب الحكومة أم صندوق إعمار الشرق!! لا أحد يطرح برنامجاً لإنقاذ الاقتصاد السوداني المهدد بالإفلاس بعد أن أصبح من المحتّم فقدان الدولة لما فوق ال90% من مواردها من العملة الصعبة بحكم الانفصال بجانب ميراث الديون الخارجية التي تجاوزت ال36 مليار دولار! لا أحد يقترح حلولاً عبقرية للخروج بالبلاد من أزمة الغلاء الطاحنة وفقدان السيولة مع ارتفاع الأسعار في بعض الولايات لدرجة أن أصبح بعض المواطنين يبيعون ملابسهم المستعملة كما تقول صحيفة الوطن (2011/1/21)!! لا أحد من أحزاب الحكومة والمعارضة يعقد سمناراً أو مؤتمراً (علمياً) لدراسة أوضاع قبائل التماس وشكل العلاقات المطلوبة بين دولتي الانفصال اللتين ستعلنان بعد شهر واحد فقط!!