من الممكن أن ادعي بأن معرفتي بالصادق المهدي تجاوزت معرفتي باي سياسي سوداني حتى الزعيم الازهري عليه الرحمة.. لسبب بسيط هو ان هذه الشخصية ليست مثيرة للجدل بين الصفوة ودعاة التغيير، بل هي شخصية متشابكة تنتقل نحو اهدافها بوسائل يغلب عليها الخيال الذاهب لمحو الآخرين، ولو كان هؤلاء الآخرون من الممكن ان يساهموا معه في تحقيق اهدافه المكونة لذاته باعتباره قائدا سياسيا، وهنا يبدو التعجب والاستغراب للمشاهد، فهو يحسن التحليل لوقائع الراهن السياسي، الا انه يحقق أسوأ النتائج. والشاهد ما يجري الآن، فلست ميالاً لتناول حقبة ما قبل مايو 96م، فهو وحده دكتور الترابي قد عجل باستلام اليسار للسلطة، وذلك بحل الحزب الشيوعي، وهنا يمكن القول دون التعرض لتأييده لمايو منذ شهورها الاولى ومصالحته معها في 7791م، دون أن يلمح لحليفه الشهيد الشريف حسين الهندي عليه الرحمة. ورغم ذلك نجد الصادق المهدي حتى الآن يعتقد انه لم يأتِ بخطأ في حق هذا الشعب، لذلك نجده في مقاله المنشور في جريدتي «السوداني والاهرام» بتاريخ 42/1/1102م تحت عنوان «شمعة في نفق انفصال جنوب السودان» قد تناول حقائق تاريخية بطريقته المعهودة، وهي تبخيس أشياء الناس رغم انه يعلم أو ينبغي ان يعلم ان حقائق التاريخ لن تتماهى مع تلبيسات السياسيين، فهي محطات كبرى في عمر الشعب السوداني، جاءت بكفاح رجال بذلوا واعطوا دون أخذ، فهي لن تتغير بحذلقة الكلام والتدقيق في الترقيم. وكما قلت فإن الصادق هو أفضل من يحلل ليحقق أخيب النتائج ذلك لما يلي: مصر عبد الناصر واستقلال السودان: يقول الصادق المهدي إن الحركة المهدية كانت وحدوية، وان ثورة 42 كانت وحدوية، وان الحركة الاتحادية كانت وحدوية، إلا أن اسبابا سياسية معلومة قلبت الاوضاع، وجعلت الكافة استقلاليين «الاهرام- السوداني 42/1/1102م». فهذا حديث غير صحيح البتة، فاذا كان الصادق المهدي هواه هو المغالطة والحذلقة الكلامية، فهذا شأنه هو، فنحن أرباب حقائق ماثلة ساطعة كالشمس الظاهرة في رابعة النهار. واردف قائلاً: «ذلك ان الطبقة الحاكمة في مصر يومئذٍ طرحت العلاقة مع السودان على اساس السيادة المصرية، ملقية بذلك دور الشعب السوداني وحرية اختياره»، وهذا محض افتراء، ونربأ برجل يحلم بقيادة أمة السودان أن يحاول طمس الحقائق، بيد انه يعلم ان اتفاقية صدقي باشا بيفن 6391م التي قال فيها صدقي باشا «جئتكم بالسيادة على السودان» كان اول عمل ناهضه رواد الحركة الوطنية على رأسهم الاشقاء، ونسفته ثورة 32 يوليو 2591م بقيادة الرئيس محمد نجيب وعبد الناصر عليهما الرحمة، لذلك يصبح القول بأن الطبقة الحاكمة يومئذٍ في مصر لن تكون استعمارية، فهي قد رفعت لواء التحرير لكافة إفريقيا، فمن الذي خاض نضال افريقيا من الجزائر حتى الكنغو وغانا كوامي نكروما وباتيريس لوممبا؟.. من الذي كون دول عدم الانحياز الايجابي «باندوق»، ومع ذلك نرجو أن يفحمنا الصادق المهدي بحقيقة واحدة تكذب ما قلناه عن مصر الناصرية، ومع كل تقدير للصادق المهدي أجد نفسي مهرولاً مسرعاً من أن ادافع عن مصر بأنها كانت تريد السيادة على السودان، وكما قلت هذا محض افتراء، لاتناول نقطة جوهرية ألا وهي قول الصادق إن الطاقة تحولت الى استقلالية رامية بالوحدة التي اختارها المهدي عليه السلام، ووحدة على عبد اللطيف عليه الرحمة، ووحدة الأزهري عليه الرضوان، وبذلك يمكن أن نقول إن الحديث دخل الحوش..!! الحركة الاتحادية واستقلال السودان: مع كل تقدير واحترام للإمام الصادق المهدي، فنحن ليست لنا علاقة مع وحدته في منظور دعوته، فلنا أسلاف وشيوخ عارضوا الفكرة في جوهرها «المهدية»، ونحن على هذا الفهم الديني المؤسس على صحيح السنة سائرون حتى الآن، ألسنا احراراً في ديننا؟ نعم إننا أحرار في ديننا، اما في قول الصادق بأن الكافة تحولت الى استقلاليين، ولذلك جاء الاستقلال رافضا لوحدة الحركة الاتحادية، فقد كان يتوجب على «الإمام» الصادق أن يسترسل شيئاً قليلاً، ليقول كيف ومتى واين الاستقلاليين الذين فرضوا الاستقلال على الزعيم الازهري؟ ان احداث مارس المؤسفة لم تشكل الا نفوراً لدى كافة الشعب السوداني، وأعادت ذكريات بطش الخليفة عبد الله بهذا الشعب، بيد أن الأشقاء هم اول من حمل مشاعل الحرية والتنوير للخروج من جلباب الأسر والبيع والشراء في البشر باسم الدين، وهم أول من كوّن حزباً سياسياً بالسودان، وهم الذين تصدوا للمجلس الاستشاري اول مسمار ضربه الاستعمار في نعش جنوب السودان، وهم أول من رفض الجمعية التشريعية، والسؤال هو أين كان الاستقلاليون من هذا العمل؟ أرجو ان اجد اجابة تاريخية من الإمام؟ ولقد ثبت من خزائن المخابرات البريطانية كما طرح ذلك دكتور حسن عابدين سفير السودان في بريطانيا، ان فكرة اعلان الاستقلال من داخل البرلمان احتفظ بها الزعيم دون أن يعلمها الا نفر واحد من الاشقاء، حتى فجر الخبر على يديه المباركتين لهذه الامة، وبذلك كان عدلاً وانصافا ان يكرمه الاستقلاليون، الا ان ما حدث هو أن قام السيد عبد الرحمن عليه الرحمة زعيم الاستقلاليين والسيد علي الميرغني عليه الرضوان، بضرب اول حكومة وطنية شكلها الحزب الوطني الاتحادي بأغلبية كاسحة للاستقلاليين، فلماذا كان هذا اللقاء لعدوين لدودين كما قال المحجوب عليه الرحمة؟ ولئن كان من الممكن أن نسوق العذر النفسي لرجل وحدوي هو سيادة السيد علي الميرغني، فما هو عذر السيد عبد الرحمن وقد حقق له الزعيم ما كان يريده؟ الإجابة سهلة وواضحة، وهي أن الوعي القومي وترك التلاعب بالدين ظهر في التفاف الجماهير حول رواد التنوير، ولا شك أن المستقبل مع الحقيقة وليس مع القداسات الزائفة، لذلك كان لا بد من وقف التنامي، وقد قطع طريق السيدين انقلاب نوفمبر 8591م، ولا يفوتني أن أذكر هنا مواقف رائعة للسيد الصديق المهدي، فقد كانت بصيرته نافذة وهو يعارض فكرة لقاء السيدين، وقاوم حكم العسكر الأول إلى أن ذهب الى ربه عليه الرحمة، وقد أيده السيدان. ولي أن استرسل في مواقف السيد الصديق، فقد كان يسعى لوحدة اتحادية، وفي هذا التوجه الوطني بعد وبصيرة، لأنه فهم أن الشعب لن يظل تحت مظلة الماضي، فهو امر يتعارض مع العقل البشري، وبطبيعة تكوين الانسان وتقدمه في فهم الدين، الآن بات واضحاً ان التصوف يقوده مشايخ يعلمون ويعرفون أن من حولهم أناس جاءوا للصفاء والارشاد، وليس لعبادة فرد، بل من أجل التوحيد والمحبة في الله. الصادق المهدي وفصل جنوب السودان: يعترف الصادق ولأول مرة بأن ثمة عيوباً فينا نقع فيها وينفذ الكيد الاجنبي منها، لذلك قال الآن او اليوم ونحن نستعد لانفصال الجنوب، نسمع شنشنة «خديوية سودانية». ويسترسل قائلاً إن الرضاء عن الذات من اوسع ابواب الضلال.. الخ، لكن هذا الاستدراك جاء في الزمن الضائع عندما ضاع السودان، فأخطأ حزب الأمة يومئذ عندما كان الصادق رئيساً للوزراء، ووقف ضد الاتفاق بين الحزب الاتحادي بزعامة الميرغني والحركة الشعبية بقيادة الزعيم جون قرنق، أليس كذلك يا سيد صادق؟ الم تتناول المجالس يوم ذاك مقولة إن الاتحاديين «رفعوا ليهم دلقان عذبونا بيه حتى الآن، كمان تخليهم يجيبوا لنا اتفاق للجنوب والسلام» هذه حقيقة تاريخية تظل عالقة الى يوم الدين باعتبارها سالبة من سوالب حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، وليس الأمر أمر شنشنة خديوية سودانية، اذ انتهت الخديوية الى الأبد، فماذا فعل الصادق للسودان منذ عمل بالسياسة؟ إن مقولة الانقلاب العسكرية حجة واهية، اذ هي جاءت لأسباب ذكرناها كثيراً حتى مللنا التكرار، فاذا كان هناك حلم للقيادات السياسية التي تعتقد أنها ذات وزن جماهيري يمكن أن تتحرك لها الجماهير، فهذا حلم لن يتحقق أبداً. ولست في حاجة للشرح، فهذا الشعب سوف يحسم منازعته الوطنية لنفسه وبنفسه من أجل السودان، وليس من أجل بيوت الدين العاملة بالسياسة، ولسنا في عجلة من أمرنا، لأن هذا الشعب تكشفت له الحقائق تماماً، فالأمر لا يخرج عن كونه مصالح أسرية لا أكثر ولا أقل.. أليس كذلك..؟!