شهدت قاعة طيبة برس يوم الخميس الماضي جلسة لتدشين المجموعة القصصية (مزيداً من الجنون) للكاتب راشد بكراوي، وقد كانت الجلسة حافلة بالأوراق والمداخلات التي تناولت هذه المجموعة. قدم الاستاذ عز الدين ميرغني ورقة مفصلة حول مشروع راشد بكراوي القصصي كما ضمن الورقة ملاحظات تتعلق بأسلوب الكتابة عنده . كما قدم عدد من الحضور ملاحظات حول تجربة الكاتب، وطرحت عدة اسئلة في هذه الاحتفالية فتحدث قائلاً: «جهنم هي الآخرون» سارتر «مزيداً من الجنون» هي المجموعة القصصية الأولى والمنشورة للكاتب «راشد بكراوي». والعنوان يثير مزيدا من التحفيز، وهو يدعو لاكتشاف جنون النص، والجنون هنا لا يعني الغموض والابهام، وانما يعني في نصوص المجموعة محاولة لاكتشاف الذات، ثم كشفها للآخرين، والقصة القصيرة هي اولى من غيرها من الاجناس الادبية الاخرى بمحاولة اكتشاف الذات في تفلتها وجنونها، وذلك لأنها وفي بداياتها المبكرة الاولى، كان الحكي الشفاهي، محاولة لانفتاح الآخر على الآخر، والحكي لا يكون الا للآخر، بدءاً من مرحلة السماع الى مرحلة الكتابة. واذا كان الاصغاء والسماع للآخر هو قمة التواصل، والانتباه العقلي، فإن الكتابة للآخر هي قمة الحرية، التي قد تكون عاقلة، او فيها مزيد من الجنون، والذي يعني في الكتابة مزيدا من الحرية والكشف والانكشاف لأغوار النفس الداخلية وكهوفها المغلقة. وأغلى نصوص المجموعة تريد ان تقول ان الانغلاق «جنون» وان الانفتاح اتزان وعقل. رغم ان الآخر قد لا يريد ذلك، «التواصل والفهم والانفتاح» وهي المأساة التي تدعو الى مزيد من الجنون. فهذه المجموعة تراوحت بين القصة القصيرة العادية والقصة القصيرة جدا والخاطرة العفوية، والسرد الحواري، فالجنون في النص ايضا، هو جنون في السرد غير المنضبط بقوانينه الموباسانية القديمة، بمعنى كلما كان هناك مزيد من الجنون، كلما كان هناك مزيد من التحرر والانفلات من قيود الشكل الكلاسيكي في الكتابة. فالراوي بضمير المتكلم، يفكر ويصرخ بصوت عال، وينادي الآخر الصامت، وهذا الآخر يعتبر هذا هو الجنون عينه، ولكي يثبت الراوي والبطل شخصيته فإنه بدوره يستدعي ايضا المزيد والمزيد من الجنون الذي يعني المزيد والمزيد من الانعتاق والخلاص والحرية، ولا يهمه ما يطلقه عليه الآخرون. يقول الراوي «ولكن عما يبحث يا ترى؟ في حقيقة الامر، إنه يبحث عن قضايا مختلفة مثل الحب العاصف، والزمن المميت، واحلام، وافكار ذهبية، وسعادة مفقودة، اخذ يصيح بصوت مسموع، يسع الجبال النائية والغابات والبحار قائلا: عودي يا حبيبتي، عودي أيتها الحورية، وقف السابلة يبحلقون اليه باستغراب، قال احدهم «يبدو لي انه فقد عقله». فأغلب نصوص راشد بكراوي، مهجوسة بالفكرة، عن الذات، وعن معاناتها مع الآخرين، أولئك الذين لا يتركون لها حرية أن ترسل صوتها الداخلي المكبوت، وان تحقق حلمها الموءود، فجهنمها هي الآخرون، فإحساس الراوي أو البطل بمأساته، هو أنه يبحث عن الآخر الذي يفهمه، أو يتواصل معه. فلحظة الالتقاط عند الكاتب راشد بكراوي للفكرة او الومضة، تأتي التقاطا واقتناصا، من لحظة آنية عفوية وعادية. يضيف اليها، فكره، وروحه ومخزونه النفسي واللغوي والاجتماعي، هيئة تتجاوز اللغة السردية عنده، الى ما هو أبعد، حيث الدلالات المفتوحة، مرجعيتها هواجسه الداخلية والمعروفة في داخل النصوص. «كنت مستلقياً على فراشي، والفراغ والملل الرهيب يحومان حولي، وصرير رتيب يأتي من النافذة، التي تتلاعب بها صديقتي الصغيرة، وتساءلت هل سقط العالم في دوائر الرتابة الملعونة؟ ولكن لماذا؟ وإلى متى؟ قالت صغيرتي، كيف يطير الحمام يا خالي؟» فهنا يصنع الكاتب من الموقف الصغير والعفوي فكره ولحظة تأمل وأسئلة. وإذا كان النص عند راشد بكراوي، محمولاً بالفكرة والتساؤل، فإن طاقة القصة القصيرة المحدودة قد لا تكفي في أغلب الاحيان، ولا تتحمل الاسئلة الفكرية والفلسفية والحياتية التي يطلقها الراوي نيابة عن الكاتب. فيتخلص النص سريعا، حيث تأتي النهاية مستعجلة وأحيانا مصنوعة، وهو نوع من الاستعجال لقفل النص، وهو من أكبر عيوب القصة القصيرة، خاصة عند الشباب المحدثين، وهذا ما يجعل بعض نصوص المجموعة أقرب إلى القصة القصيرة جدا التي من اهم اعمدتها لحظة التنوير الكبرى. ومنها أحيانا ما يحول النصوص الى الخاطرة، بحيث يصبح المضمون والفكرة خامة او كتلة لم تنحتها ادوات القص والسرد. فهذه الادوات هي التي تجسر العلاقة بين المتلقي والنص، وتبعد الكاتب عن التدخل المباشر. وحتى يكمل الكاتب فكرته، وآراءه، وتداعياته، فإن باقي النصوص تتحمل العبء السردي وتتحمل ضيق الشكل والماعون، والنفس السردي القصير عند الكاتب «راشد بكراوي»، فالنصوص تشيل بعضها، كل يكمل النقصان في الآخر، لذلك تجد ان الافكار تتواصل من بداية المجموعة وحتى آخرها. حيث يحاول الكاتب أن تكون النصوص كلها وعاءً موحدا لافكاره، لأن النص الواحد عنده يضيق مع نفسه السردي القصير، وغياب الصوت الآخر غير صوت الراوي في أغلب النصوص ان لم تكن كلها. وما تمتاز به المجموعة هو أن الراوي يكاد يكون واحدا في كل النصوص «المجموعة ذات الراوي الواحد»، راوٍ مجرد من الوصف الخارجي، حيث لا يهم ذلك لأنه يتداعى ويفكر بصوت مسموع، وذلك يعتبر ذكاءً من الكاتب حتى لا يتقيد ببطاقة شخصية معنية قد لا تسمح له بالدخول الى بقية النصوص. وهذا الراوي الحر، يحق له الدخول في اية لحظة آنية يقتضيها الكاتب من الحياة الواقعية حوله. وهو نوع من التجريب في القصة القصيرة الحديثة. وقد استطاع راشد بكراوي بهذا الاختزال اللغوي والسردي «النفس السردي القصير» والذي لا تكرهه جنسية القصة القصيرة وله محاسنه، وعيوبه، استطاع الكاتب أن يتخلص به من الزوائد السردية واللغوية، وان يدلف مباشرة الى لحظة التوتر. رغم ان القصقصة السردية كانت زائدة في أحيان كثيرة، حيث جعلت النص مكشوفاً وأصلع ومجوفاً، رغم اكتنازها بالوجع والانين والشكوى والهواجس والافكار والنفس المثقلة احباطا ويأسا. والذات الساردة تعاني من الاستدعاء اللحظي لما تعيش فيه من شتات وتمزق. فالماضي لا يشكل حضورا زمنيا في اغلب نصوص المجموعة، لذا لا يستخدم الكاتب «تقنية الحرق الزمني» وتوابعها، اي ان الراوي لا يستعرض ماضيه وتاريخه لأن النص لا يتحمل ذلك، فمأساته هي اللحظة الحاضرة، ولها ان تفسر الماضي او لا تفسره، فاغلب نصوص المجموعة تتميز بالانهماك والتركيز على الموقف واللحظة الآنية، والراوي والكاتب لا يريد أن يحاسب الزمن، وإنما يريد أن يحاسب من يعيش فيه حياً الآن في اللحظة الحاضرة. «الآخر الذي يصنع الحاضر». فيقول في قصة «طيف» «في ذلك المساء البعيد عندما مر الطيف، وعانقته ذكريات قديمة انزوى على نفسه» فهو في صلح مع الماضي وفي خصام مع الحاضر. وفي قصة «تفكير» يقول «إنه يفكر كثيرا ولا يفعل شيئا سوى ان يفكر، من جديد» وفي قصة «الجسر» يقول ايضا «كان في الواقع يود ان يرى ويحدق لا أن يكون مكشوفا، يحب الخفوت والانزواء، وتأمل الفئران الجائعة في حجرته». وفي قصة «ايام العزلة» تقول البداية، «في مساء يوم ما، وامام الحجرة العتيقة، التي ملئت عن آخرها بالغرائب، وأشجار الفل الحقيقية، داهمه احساس مفاجئ ورهيب بأن امعاءه تتلوى وتنتشر ألماً فظيعا في جسده» «فحتى الألم الجسدي هو إحساس متوهم عنده» وفي قصة «هذا العصر» يقول مبتدئا «جلست محبطا اوقدت سيجارة محاولا ان افهم الذي يدور، وكان لدي سنوات طويلة فارقني فيها الفهم، دائما اتساءل كيف ضاعت تلك الخيوط الرفيعة في رأسي، بقي الفراغ المميت، هناك قصة لا تنتهي، وقلت إنه لا فائدة، على الجميع قطع رؤوسهم» فالبطل يعاني من الفراغ في الزمن الحاضر، وليس في الزمن الماضي «وجع الوجود الحاضر». فشخصيات راشد بكراوي دائماً موجودة في الواقع الزمني الحاضر، فهي لا تستطيع أن تتسامى روحيا حتى تتخلص من اللحظات الموجعة الحاضرة «الزمن الخارجي الحاضر»، ليتحول الى الزمن الداخلي الخاص. ليرى ذاته وحقيقة موقعها وموقفها من الآخرين. ولعل جهنمه هي ذاته وليست الآخرين. والبطل في كل النصوص ليس مجنونا وانما يحاول أن يفكر بصوت عالٍ ويشكو الآخر للآخر، وهو رغم ذلك لا يعتزل الناس، أو ينسحب من الحياة، لأنه لا يستطيع ذلك. فصرخاته وتصرفاته اللا عقلانية هي محاولة لاثبات الوجود، محاولا أن يمنع الجنون الكلي حتى لا يتطور الى مزيد ومزيد من الجنون. فرغم تمزقه ومعاناته وانهزامه وأحلامه الخائبة «كنت اتمنى ان اكون كما احب، ولكن هذا مستحيل، انا لم اتقدم حتى الآن لاية خطوة الى الامام»، فهو اسير وسجين الواقع الحاضر، وزمنه الخارجي «محلك سر» «لا شيء يحدث، لا احد يأتي، لا أحد يذهب، وهذا فظيع»، فالواقع محزن ومرير عند كل شخصيات الرواية بضمير الأنا. «كثرت الاكاذيب، وصارت لامعة كالذهب، ارى من المحكمة ان نعود الى الغابات الاولى، عراة بلا ادنى زيف، واذا شعر احد ما بأنه سعيد، فالتتأكد بأنه خائن عظيم، لا يشق له غبار». لقد استفاد الكاتب راشد بكراوي من النفس السردي القصير، او من تقنية الاختزال والتكثيف اللغوي، وتغييب الحدث باستخدام ما يسمى بكتابة دراما التراكمات العفوية الصغيرة، منصوصة عارية من الغرابة والجمل الغامضة، فالتراكم العفوي نعني به الحدث او الموقفي او السؤال الذي لا يثير انتباه الفرد العادي، وانما يثير ما يعرف كيف يلتقط او يقتنص تلك المواقف الصغيرة وحتى العادية. «شخص يفضل النوم على الخروج للمدينة وترهاتها المصطنعة» ويتساءل كثيرا «هل أنت أنت؟» وتارة يتساءل «ما العلاقة بين الكتابة والألم؟» «ومتى يكون العالم جديدا والاشياء بلا اسماء؟» «وكيف يطير الحمام يا خالي.؟ سؤال عادي وعفوي وبرئ من صديقته الطفلة تجعل منه نصا كاملا... وفي احدى نصوصه يتساءل «وهل الحرية أن تفعل ما لا يفعله الآخرون؟ ام شيئا لا يهتمون به؟ «النهايات دائما لا تأتي سعيدة» «زيف مَنْ يدعي بأنه سعيد» ويستمر صراع الشخصية مع ذاتها، لأن الآخر لا يستطيع أن يرد على جوابه. ورغم محاولة البطل ان يتأمل مستبصرا، ورغم ذلك لا تجد الاجابة. ان خلو الكثير من نصوص راشد بكراوي من الحدث والشخصية الفاعلة التي تصنعه، حيث طغيان الفكرة، والاعلان الجهري عنها، وتقنية السؤال الحائر، جعله يلجأ الى الغاء فكرة التوقع عند القارئ التقليدي العادي، والذي ينتظر البداية التي تقوده الى النهاية، حزينة كانت ام سعيدة، مفتوحة ام مغلقة. فالنهاية في نصوص «مزيداً من الجنون» إما استمراراً للحيرة، والسؤال او التساؤل المفتوح، واما محاولةً لتكبير الفكرة او الرسالة، واما ترك الحلم يستمر حتى في لحظة القتامة واليأس. لذلك فالنهاية في هذه النصوص تحاول أن تخلق قواعد جديدة لاحالة النص إلى المتلقي، إما أن يجيب على الاسئلة أو يعيد قراءة النص وكتابته «إعادة الكتابة» بمحاولة خلق نهاية جديدة له. أو أن يستنطقه حتى يجد المفتاح الضائع لإعادة قراءته. والنصوص في عمومها تحمل افكار الكاتب وذاته فيما قبل الكتابة، وفيما بعدها، فيمكنك ان تقرأ بها افكاره وفلسفته في الحاية، ويمكنك أن تقرأ بها شخصيته التي لا يستطيع أن يقولها ويذكرها. «التحليل النفسي للنصوص» حيث الاسقاط واضح في كثير من النصوص، وحيث الراوي هو الكاتب نفسه في عدة مؤشرات ومفاتيح يكشفها النص بنفسه بقصدية الكاتب أو بغير قصدية. بحيث أن أغلب نصوصه تجيب بسهولة وعفوية عن سؤال النقد التقليدي، «ماذا يريد أن يقول الكاتب» لأن النصوص بغياب الحدث، والفعل، ابتعدت عن شفاهية الحكي من اجل الحكي، كما أنها ايضاً ابتعدت عن كتابة الغموض الذي قد لا يتيح الاجابة عن السؤال الذي ذكرناه، لأن الغموض في الكتابة يجعل العلاقة بين الدال والمدلول غير واضحة. وهو كذلك قد ابتعد عن كتابة الواقع المجاني السهل، ورغم أنه التقط من الواقع الذي حوله ما لا يلتقطه الآخرون وهو ما يسمى بتقنية أو كتابة «دراما التراكمات العفوية» أي الالتقاط العفوي للحياة العادية فيما حوله. ولا يعني هذا الالتقاط العفوي السهولة والمجانية، بل أتاح له هذا الالتقاط العفوي أن يفتح به بعض الأبواب المغلقة في نفسية الشخصية الراوية، مستخدماً تقنية اللغة السيريالية المفزعة، المكتوبة أيضاً بتداعيات عفوية، تكشف بسهولة النفوس والدواخل، ويمكن أن تنسبها للكاتب إذا استخدمت أدوات التحليل النفسي، حيث الإحباط من الواقع والإنسان الذي يعيش فيه. فشخصية الراوي في أغلب النصوص، لا تخلو من مناطق محرمة ومحرومة، الجنس أو الحب، أو التواصل مع الآخرين، أو حرية التفكير والتعبير. وكما ذكرنا عن لغة الاختزال والتكثيف، وهي لغة تفكير أكثر من أنها لغة سرد وحكي، حيث اللغة لا تحكي عما حدث ويحدث، وإنما هي تفكر مع الراوي بحيث تجد الوسيلة التي يشتكي ويسأل ويحلم بها. ولغته لا تنحرف عن المألوف، حتى لا يضيع ما يريد الكاتب توصيله. فهو لم يبتعد عن الغموض فقط، وإنما ابتعد عن الشعرية التي قد تحول النظر أيضاً عما يريد قوله. لقد طغت الفكرة على كل شيء في النصوص، حتى أن اللغة أحياناً تهمل إهمالاً ذريعاً في قواعدها التي لا تقبل المسامحة، وفي تعبيراتها الجميلة التي تحفز القارئ لكي يصير «النبق» سمحاً في الطبق، كما يقول المثل السوداني.