في 21 و 22 و 23 فبراير المنصرم و تحت شعار « المريض أولا» عقدت جامعة العلوم الطبية و التكنولوجيا المؤتمر الأول للرعاية الصيدلانية في السودان و قد كان مؤتمرا علميا عالميا رصينا و ناجحا بكل المقاييس تحضيرا و مشاركة و تناولا جادا للمواضيع التي تخص الرعاية الصيدلانية من جميع النواحي، المجهود الذي يشكر عليه البروفسير عبد الله عمر الخواض رئيس المؤتمر و طاقمه المميز و كوكبة من النجوم المضيئة مثل الدكتور عبد الرحمن حامد و الدكتورة علياء فيصل المهدي و الدكاترة الطاهر المكاشفي و دينا محمد و عزة صلاح و آخرين. يعتبر هذا المؤتمر إضاءة أشعلت الأمل من جديد في المقدرة على الإنطلاق مجددا نحو الأمام. و كل الأمل أن يخرج هذا المؤتمر بتوصيات على نفس المستوى و كل الرجاء - و هذا هو الهم الأكبر- أن تلقي هذه التوصيات آذانا صاغية و قلوبا مفتوحة لإنزالها إلى أرض الواقع المرير! منذ عهد تليد انفصلت مهنة الصيدلة عن مهنة الطب عندما تشعبت أساليب العلاجات الدوائية المستخدمة لعلاج الأمراض و تميزت بأنها تجمع بين فنون الآداب و علوم الطب و كان الصيدلي قديما و حديثا هو « حكيم الدواء» في كل ما يخص الأدوية و العلاجات طبيعية كانت أم مصنعة. و تطورت المهنة و تنقلت عبر الزمن من مجرد بستان تزرع فيه النباتات الطبية و تستخلص لتكوين الجرعات الدوائية المختلفة إلى مهارات تركيب الأدوية لتصنيع الدواء و تركيبه و ابداع اشكال صيدلانية مختلفة منه و عندما أدخلت الآلة و جهاز الحاسوب في عمليات التصنيع والتركيب امتدت خدمات الصيدلاني سريريا لمتابعة العلاجات المستخدمة للمرضى في ستينيات القرن الماضي و جاء التطور الأخير مع بداية التسعينيات و هو « الرعاية الصيدلانية « التي تزامنت مع النقلة النوعية في كامل الخدمات الطبية و التي تضع المريض كمركز لاهتمامها فأحدث هذا نقلة كبرى في المفهوم الفلسفي الشامل للخدمات الصيدلانية فكان لابد من مواكبة هذا التطور في جميع المراحل من التعليم الصيدلي ثم القوانين التي تنظم المهنة ثم نوعية الخدمات الصيدلانية نفسها مما رفع سقف توقعات المرضي من مجرد الشفاء من المرض إلى تحسين مستوى و نوع الحياة. و الصيدلة في السودان بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بعدد قليل من الرواد الأوائل من السودانيين: د. يوسف بدري و د. ابراهيم قاسم مخير و د. عمر قباني و غيرهم و تأسست ضمن الخدمات الصحية الأخرى و استمر التطور فيها بنقل كلما يصل للعالم من تطور علي مر الزمن فسطروا لها تاريخا ناصعا يفاخر به كل أفراد قبيلة الصيادلة حتى توج هذا العطاء بإفراد إدارة خاصة بالصيدلة بوزارة الصحة الاتحادية بمنتصف الثمانينيات تعني بكل شئون مهنة الصيدلة و الصيادلة و شئون الدواء ، كما تميزت هيئة الامدادات الطبية كهيئة حكومية للإمداد الدوائي الذي وفر للبلاد كميات كافية من الأدوية ذات الجودة العالية التي لا يرقي إليها الشك - و الجودة ليست صدفة كما يقال- واستمر حال الصيادلة كذلك في كل مجالات عملهم يدعو للفخر و الرضاء. و بوصول حكومة الإنقاذ للسلطة كانت نهاية العهد الذهبي لهذه المهنة التي نالت نصيب الأسد في التخريب والدمار، ابتداءا من التعليم الصيدلي الذي توسع أفقيا بدون مقومات موازية لتأهيل الكليات و تجهيزها بالمعينات المناسبة و من كليتي صيدلة بجامعة الخرطوم ثم الجزيرة أصبح لدينا الآن ما يربو عن التسع عشرة كليات صيدلة بالجامعات الحكومية والخاصة فيما سمي بثورة التعليم العالي و التي نقدها أهل الإنقاذ أنفسهم و عابوا عليها عدم الإسهام الإيجابي في تحسين مستوى الخدمات العلاجية و بالتالي عدم استفادة الحقل الصحي و بداهة المجتمع من هذه الثورة أو « الفورة» غير المدروسة. و ما زالت الخدمات العلاجية تقوم على الطبيب وحده كلاعب أساسي مما يهدم فكرة «عمل الفريق» التي يقوم عليها جوهر الخدمات الصحية حاليا بحيث يجود كل صاحب اختصاص بما يليه من مهام و يؤديها بإتقان واضعا المريض نصب عينيه. وكذلك الجهات الأخرى التي تنظم مهنة الصيدلة إلى جانب المؤسسات التعليمية قد تراجع دورها في المحافظة و ترقية أداء الصيادلة وانتهى الأمر الآن بأن صارت إدارة الصيدلة سرابا يبابا و أصبحت لا تملك شيئا في أمر الدواء و لا المهنة و تفرق أمر الصيادلة ، و جئ بلجنة للأدوية و السموم تتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية برئاسة طبيب! هي صاحبة الحل و العقد في موضوع الدواء والعلاج و كان ذلك مخرجا سريعا للصراعات البائسة التي جرى حامي وطيسها على صفحات الصحف و أدخلت الشك في نفوس المواطنين فيما يخص الدواء. جرت هذه الأحداث في فترة وجيزة من الزمن كان فيها الاتحاد المهني للصيادلة قد عين أعضاؤه بواسطة السلطات الصيدلانية نفسها فكان الخصم والحكم و لم يستطع تمثيل عموم الصيادلة و لم يحمل هم الصيادلة بل استغرق هو ايضا في الصراعات الجارية. فتضافرت كل تلك العوامل و أصابت المهنة في عافيتها. صارت الصورة المزعجة الآن أن الصيدلي يتخرج بكفاءة مهنية دون التطلع و لكن حتى هذا « الدون» عندما يخرج لعالم التطبيق يجد أن ما يقدم من خدمات لا يتطلب كل هذا الإعداد المضني الذي يستخدم نسبة ضئيلة جدا من معرفته و تأهيله و علمه و كل ذلك يقود لطرح أسئلة منطقية: إذا لم يقدم هذا الصيدلي خدمة موازية لتأهيله للمجتمع فلماذا الصرف المكلف على التعليم الصيدلي أصلا؟ نعم الوضع الحالي يفقد الصيادلة مبررات تأهيلهم العالي و يفقد المهنة تفردها في خدمة المجتمع و يفقد الصيادلة القدرة على شغل الحيز العلاجي المتوقع فتبدو المهنة في ظل هذا الوضع كأنها بلا حراسة و بلا حراس!! مع وجود كم هائل من القامات الصيدلانية السامقة من أبناء السودان خارج نطاق دوائر اتخاذ القرار ينظرون و يتأملون و يتألمون من سوء الحال!! فهل يا ترى يعود لمهنة الصيدلة الماضي المشرق الذي ينطلق به الصيادلة إلى الأمام لاستشراف الغد؟