على امتداد الشوارع والطرقات تستطيل مبانٍ وتتمدد أخرى بأنماط معمارية مختلفة تشير في مجملها الى حراك استثماري يحدث خلف تلك الجدران.. ولان قطاع الصحة بالبلاد ظل يعاني من قلة دعم الحكومة لمرافقها وضعف الميزانية المخصصة للصحة، وجدت رؤوس الاموال طريقها الى الاستثمار في بناء المستشفيات والمرافق الصحية، لتقدم خدمات عجزت عنها الدولة.. الامر الذي اثار حفيظة وزارة الصحة ودعاها لعقد شراكات مع القطاع الخاص تدعم من خلالها مرافقها عبر استئجار مبانيها للمستثمرين.. هادفةً من وراء ذلك الى تطوير بيئة عمل المستشفيات وتوفير تخصصات ومرافق وأجهزة وتأهيل العنابر، فاستأجرت مبنى المستشفى الجنوبي الذي كان مخصصا لذوي الدرجات العليا من الخدمة المدنية، فاستأجرته شركة قطاع خاص لتخطو مستشفى الخرطوم خطوات كبيرة في اطار ذاتية التسيير من عائدات ايجار المستشفى الجنوبي الخاص.. لتستفيد مستشفى ام درمان من تجربة مستشفى الخرطوم وتقيم في المبنى الواقع في الجهة الشمالية الشرقية الذي كان يقف منعزلا، وقد خصص عنبر «قاينا» لامراض النساء والتوليد ليغلق فترة، ثم عاودت المستشفى الاستفادة منه مجددا باختياره عنابر عزل للامراض المعدية، ومن ثم مخزناً لمعدات المستشفى قبل أن يعاد تأهيله بعد ان استأجرته شركة خاصة تقيم فيه مستشفى البقعة التخصصي. وما بين المستشفى الجنوبي ومستشفى البقعة، يقف العامل المشترك لقيامهما داخل مباني المستشفيات الحكومية واستئجارها من قبل شركات قطاع خاص.. فهل أوفت المستشفيات الخاصة بمتطلبات الفكرة التي اقيمت من اجلها ودعمت الحقل الطبي؟ وبالمقابل هل عادت بالمردود المرجو لمستشفيات الحكومة؟ وما بين هذا وذاك كانت لنا جولات وأحاديث مع قيادات المستشفيين. وداخل المستشفى الجنوبي الخاص كان لنا لقاء مع المدير الطبي للمستشفى الدكتور أبو بكر خليفة الذي ابتدر حديثه بالقول إنه ومنذ عام 7002م عملت ادارة المستشفى التعليمي على تطوير المستشفى الجنوبي في اول بادرة في السودان، هدفت منها لخلق استثمار يعود بالفائدة على مستشفاها التعليمي ومرافقه، وتقديم خدمة متميزة وعالية الجودة وباسعار معقولة. وفي عام 8002م وقعت العقد مع الشركة على انشاء وتطوير وتحديث القسم الجنوبي، ليصبح مستشفى قائما بذاته وبامكانيات متميزة تعجز الدولة ممثلة في وزارة الصحة عن انشاء مثله المتميزة.. وبالفعل تم افتتاحه رسميا في نوفمبر من عام 8002م بعقد ايجاري شهري بلغ في ذلك الحين «022» الف جنيه شهريا، على ان تتكفل مستشفى الخرطوم بدفع الرواتب الاساسية للعاملين بالمستشفى الجنوبي بحسب ما نص عليه العقد المبرم بين الطرفين وذلك بمعدل «58» ألف جنيه شهريا تشمل مرتبات الاطباء ونواب الاختصاصيين والاطباء العموميين والسسترات طاقم التمريض والعمال وكل افراد القوة العاملة بالمستشفى، هذا مع وجود طاقم تمريض اجنبي تصرف رواتبهم بالدولار الامريكي. وفي مايو من عام 9002م حصلت تعديلات في العقد نسبة لعدم ايفاء المستشفى التعليمي بدفع الرواتب الاساسية للعاملين.. وحفاظا على العقد المبرم بين الطرفين.. يقول د. خليفة: سعت وزيرة الصحة السابقة الدكتورة تابيتا بطرس الى التقريب بين وجهات النظر، وبعد سلسلة من الاجتماعات ما بين ادارة المستشفى الجنوبي الخاص ومجلس ادارة مستشفى الخرطوم التعليمي، توصل الطرفان الى ضرورة تقديم تنازلات من قبل الطرفين لتعدل قيمة الايجار الشهري في العقد لتصبح «160» الف جنيه، وذلك كان في وقت لا يتجاوز فيه دخل المستشفى عشرين الف جنيه شهريا، وكانت معظم عائدات المستشفى وقتها تذهب للعلاقات الشخصية. ولمواكبة التطور العلمي في مجالات الطب، يقول خليفة إن المستشفى شرع في إجراء عمليات نوعية في زراعة الكلى، وأجرى المستشفى حتى الآن أكثر من «24» عملية زراعة للكلى، هذا بالاضافة الى عمليات استبدال المفاصل التي يجريها استشاريون من المملكة المتحدة في مجالات الركبة و«المخروقة»، وعمليات السلسلة الفقرية وجراحة المخ والاعصاب، كما ادخل المستشفى بعض العمليات في جراحة التجميل غير الموجودة، بالاضافة لعمليات الجراحة العامة والنساء والتوليد والمسالك البولية.. وعندما دلفنا الى الحديث عن الكوادر الطبية العاملة بالمستشفى، ذكر خليفة أنهم عمدوا الى الاستفادة من الكوادر المحلية والكوادر السودانية في دول المهجر خاصة في المملكة المتحدة، وذلك عبر زياراتهم المنتظمة للبلاد، وفي شتى مجالات التخصصات الدقيقة. وفي ما يخص الكوادر المحلية سعينا من وراء ذلك الى دعم اطباء المستشفى الحكومي بعد انتهاء دوامهم داخل المستشفى. وفي مجال التمريض استعان المستشفى في بدايته بكوادر تمريض اجنبية «مصريين وفلبينيين» وبعد تدريب السودانيين على يد الاجانب استغنى المستشفى عن الكوادر المصرية في مجال العناية المكثفة، وبعد الاستفادة من خبرة الفلبينيين سيعتمد المستشفى على الكوادر المحلية في مجال التمريض. وفي ختام حديثه ل «الصحافة» قال دكتور خليفة إن المستشفى به «38» غرفة تنويم وعنبران سعة العنبر الواحد ثلاثة الى خمسة اسرة للعناية المكثفة، ومجهزة بالامكانات اللازمة لاستقبال المريض. وتبلغ رسوم التنويم اليومي «250» جنيها للغرفة. وفي ما يختص بالمستشفى التعليمي، ذكر أنه استفاد كثيرا من عائد الايجار الشهري للجنوبي، وذلك بتأهيله للعيادات المحولة بمجمع فتح الرحمن البشير، وتأهيل الحوادث وعنابر المستشفى، كما أنجز المستشفى العديد من المباني الجديدة داخل المستشفى، والآن أكمل مبنى المجمع الجراحي الحديث. وعلى ما يبدو فإن تجربة الجنوبي شجعت وزارة الصحة على تكرارها وتنزيل الفكرة بكل حيثياتها داخل مستشفى ام درمان التعليمي في مباني الجهة الشمالية الشرقية للمستشفى التي كانت في السابق عنابر «قاينا» نساء وتوليد، ومن ثم أغلقت، ليتم فيها من جديد استقبال مرضى الأمراض المعدية وتخصيصها عنابر عزل واغلاقها لتعود مخازن لمهملات المستشفى، فاستفاد منها المستشفى بتأجيرها لشركة قطاع خاص أقامت فيها مستشفى البقعة التخصصي الذي يتم من خلاله تبادل المنافع وبتكلفة بلغت «71» مليون جنيه، ثم اعادة تأهيل المبنى وافتتاحه مطلع ابريل من العام الماضي. وداخل مستشفى البقعة كان لنا حديث مفصل مع المدير العام الدكتور خالد محمد عبد الله الذي ابتدر حديثه بما يعانيه مستشفى ام درمان نتيجة لتمدد المدينة والزحم السكاني العالي، حيث تستقبل حوادث ام درمان ما بين «008 0001» مريض في اليوم، مما يمثل ضغطا كبيرا على المستشفى. ولأن الحوادث مجانية فإن ذلك يزيد من الاعباء الواقعة على المستشفى، لذا استئجار ادارة المستشفى لهذا المبنى يمثل دعماً حقيقياً لها، خاصة ان قيمة الايجار تتراوح ما بين «150 200» الف جنيه شهريا، أعانت المستشفى في تأهيل مبانيه واقامة مجمع متكامل للعمليات الجراحية. وعن مستشفى البقعة قال إن المبنى صمم على النمط المعماري الانجليزي واستغرق مدة شهرين لاعادة تأهيله، لذا بدأت فيه العمليات متأخرة نتيجة لتأخير زمن وصول الأجهزة. وفي شهر يوليو شرعنا في عمليات الولادة الطبيعية، وكانت وتيرة العمل تتم بصورة تدريجية عبر مراحل.. وسعينا إلى ان نكون متميزين بتقديم خدمات غير متوفرة داخل مستشفى ام درمان والمستشفيات الخاصة المجاورة، فمستشفى ام درمان وعلى قدمه التاريخي لا يملك جهازاً للموجات الصوتية العادية أو جهازاً للاشعة المقطعية للقلب، لذا سعينا الى ايجاد هذه الاجهزة وبامكانيات عالية، هذا بالاضافة الى جهاز فحص الغازات في الدم. وبالمستشفى مجمع جراحي متكامل ومركز تشخيص متطور ومختبر حديث وغرف للعناية المكثفة، هذا في ما يختص باجهزة التشخيص، وعن الكوادر يقول د. خالد إننا عمدنا كذلك الى العمل في مجالات وتخصصات غير متوفرة، منها عمليات جراحة المخ والاعصاب والعمود الفقري، وتعاقدنا مع جراح سوداني عالمي، كما تعاقدنا مع المتخصصين من الكوادر السودانية المميزة من المحليين والمهاجرين في مجالات دقيقة، منهم اختصاصي القلب واختصاصي الغدد الصماء والسكري، ونرغب في عمل قسطرة القلب. وبما أن المستشفى استثماري، فقد ذهبنا للحديث عن ذلك وعن اسعار الخدمات، وعما اذا كان هناك تخفيض لغير المستطيعين.. فقال د. خالد ان هنالك نصف مليار تم صرفها لتأهيل المباني، وحتى اللحظة لم تعد أي ارباح على أصحاب رأس المال، ولكن من المتوقع ان يكون ذلك في اغسطس القادم. ومن الملاحظ ان «58%» من المترددين على المستشفى غير مستطيعين، ونساهم معهم في تخفيضات تصل الى «08% 09%» وذلك عبر موظفين تم توظيفهم لخدمة غير المستطيعين من خلال البحث الاجتماعي، وهذا الأمر نتجاوزه تماما في حالات الحوادث. وننسق مع إدارة المستشفى التعليمي ونستقبل منها الحالات بنسبة «51 02%» فقط من القيمة الكلية.. ولكن ما يعانيه المستشفى من ضيق للمساحة جعلنا نعمل بالأولويات وتجاوز التخصصات المتوفرة. فالمستشفى به «02» غرفة في حين نحتاج الى «51 02» غرفة اضافية، وأسعار غرف التنويم على ثلاث درجات تتراوح ما بين «001 003» جنيه بحسب نوع خدمات الغرفة. وما بين البقعة والجنوبي تطورات طالت مباني المستشفيات الحكومية، بالاستفادة من ايجارات مبانيها، ففي الوقت الذي كان فيه المستشفي الجنوبي يصرف «23» ألف جنيه كانت عوائده لا تتجاوز التسع ملايين او كما قال وكيل وزارة الصحة السابق دكتور كمال عبد القادر ل «الصحافة»، الأمر الذي تمت معالجته بطرح عطاء باستئجاره، وبالمفاضلة وقع الخيار للمستأجر الحالي بقيمة «071» ألف جنيه شهرياً تسهم في علاج مئات المرضى، وأحدثت دعماً كبير جدا لمستشفى الخرطوم، وكل ذلك أيضاً في مستشفى البقعة بأم درمان ومجمع بحري مستقبلاً، حيث أن هذه الايجارات ستسهم في دعم العلاج المجاني بمستشفيات الحكومة.