إن زيادة القدرة التنافسية بين الامم تفرض الاهتمام بالعلم والمعرفة وتنشيط البحث العلمي والتنمية التكنولوجية. هذا وتعاظم دور البحث العلمي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية يدفعنا للتفكير في وضع استراتيجية قومية مميزة للبحث العلمي في السودان، ترتكز على الدعائم والأسس التالية: 1 وضع سياسة مستدامة للبحث العلمي لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتطوير الخدمات بصفة عامة. 2 تحديث القطاعات الانتاجية والخدمية، وتشجيع القدرات الابداعية والمبتكرات التي تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحفيز المبدعين. 3 انشاء صندوق قومي للبحث العلمي، واستقطاب المؤسسات التمويلية المحلية والاقليمية والدولية لدعم الصندوق. 4 اعادة هيكلة المنظومة البحثية بالسودان وإنشاء فروع تخصصية للمجالات المختلفة الزراعية والصناعية، وعلى نمط المؤسسات البحثية العالمية لمواكبة المستجدات في البحث العلمي على اسس علمية سليمة. والسؤال الذي يطرح نفسه، هو هل يمكن تحقيق ما ننشده من موقع للبحث العلمي في الخريطة البحثية العالمية في فترة ليست بعيدة بالامكانيات المتوفرة للدولة؟ إن التوجهات العامة للدولة وبرامجها شملت تطوير البحث العلمي، ولكن الامكانات المخصصة لا تكفي لتحقيق كل الطموحات التي ننشدها، فلا بد من ايجاد مصادر للتمويل من عدة جهات تمويلية، وتخصيص نسبة محددة على جمارك وضرائب بعض السلع المستوردة كالسجاير ومعدات الاتصال الكهربائية وغيرها، لصالح البحث العلمي، بالاضافة إلى تخصيص دمغة ثابتة للبحث العلمي للمعاملات التجارية. ولا بد أن تحكم سياسة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مرجعية اساسية ممثلة في التوجهات العامة للدولة. وفي تقديري أن الحكومة دائما تتطلع الى تحسين واعادة النظر في برامجها لدفع عجلة التقدم في البلاد، فنأمل أن تضع الدولة في اولوياتها البحث العلمي، وتعطيه ثقله واهميته في التنمية والتطور الاقتصادي والخدمي. ولا جدال في أن منظومة التعليم والبحث العلمي الحالية في حاجة ماسة الى تطوير واعادة النظر في السياسة الموضوعة، ويمكن اعادة هيكلة مؤسساتها البحثية على الأسس التالية: 1 تأهيل القوى البشرية في مجال الإدارة العلمية عن طريق وضع برامج تدريبية داخلية وخارجية وبعثات علمية خارج البلاد، ودعوة الخبراء والعلماء لالقاء محاضرات وتدريب الادارات العلمية في كافة المؤسسات البحثية. 2 تحسين دخل الباحثين والعاملين في مجال البحث العلمي عامة، وتوفير المناخ الصحي للعمل، وتحفيز المبدعين والمبتكرين، وربط الترقي بالانجاز والابداع. 3 توفير كل الإمكانيات والآليات للبحث العلمي في كل المجالات الانتاجية والخدمية. 4 إن التعليم الجامعي والبحث العلمي وجهان لعملة واحدة، فالنهوض بالتعليم العالي تلقائيا سوف يؤدي الى تطوير وتفعيل البحث العلمي، وعلى الدولة أن تتبنى المتفوقين وتكوين القاعدة البحثية، وتوفير الامكانيات اللازمة لتطوير البحث العلمي. إن أهمية البحث العلمي تفرض على الدولة تكوين مجلس أعلى للبحث العلمي على مستوى رئاسة الجمهورية، لمعالجة السلبيات التي أدت الى تدهوره وعدم فعاليته في حل المشكلات الاقتصادية والخدمية، بالإضافة الى تفعيل دوره في القطاع الخاص لتأسيس شراكة فعلية للنهوض بفعاليته لخدمة الانتاج والخدمات. وهنالك محاولات من قبل الصفوة في المجال الزراعي والصناعي بتشجيع من النائب الثاني لرئيس الجمهورية في النهوض بالقطاع الزراعي، فتكونت هيئة النهضة الزراعية التي جمعت كوكبة من الزراعيين المميزين، ولكن لم تنشر جهودها ومساهمتها الفعلية بعد. كما أن هنالك عدة مراكز وهيئات بحثية في المجال الزراعي والصناعي تحتاج الى تفعيل وإعادة هيكلة وتطوير، وإزالة الغبار من فوق محطاتها البحثية على سبيل المثال وليس الحصر، محطة أبحاث الغزالة جاوزت لابحاث المراعي والانتاج الحيواني بغرب السودان، التي كانت في الستينيات أعظم مركز أبحاث في افريقيا والشرق الاوسط في مجال المراعي الطبيعية وتربية الحيوان. وكذلك محطات أم بنين وأبو نعامة والحديبة كلها محتاجة إلى تطوير وتفعيل واهتمام من الدولة. إن التدهور الذي شمل القطاعين الزراعي والصناعي افقيا ورأسيا، نجم عن عدم ربط البحث العلمي ونتائجه، وغياب دوره الواضح في التخطيط والتنفيذ للمشروعات الانتاجية، ولعدم وجود سياسة مستقرة ومدعومة من الدولة. فهنالك انفصام واضح بين البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة وقطاعات الانتاج والخدمات، فالصناعة مثلا تتعامل على النمط المتخلف تسليم المفتاح، ولا تحاول تشجيع الابتكار والبحث العلمي المحلي، وتعتمد كليا على استيراد التكنولوجيا بدلا من تطوير قدراتها المحلية. ومثال ذلك تصدير الجلود الخام المملحة wet blue بدلا من تصنيعها صناعة جيدة تنافس بها الدول المصدرة الأخرى، والسودان من أكبر الدول المنتجة للجلود في العالم بحكم ثروتها الحيوانية الغنية التي تجاوزت «120» مليون وحدة حيوانية. إن الدولة التي تمتلك قاعدة علمية راسخة تكون قادرة على مواجهة التحديات ومواكبة التقدم التكنولوجي الحديث في كل المجالات، فلا بد من زيادة الاهتمام بالمعاهد البحثية والمراكز التجريبية لتطبيق كافة الأساليب الحديثة في الارتقاء بالقطاعات المختلفة، مع التركيز على تقديم الخدمات الاستشارية للقطاع الخاص، والإسهام بفعالية لنقل التكنولوجيا، وتحديث آليات الانتاج والخدمات، هذا ويمكن توزيع الكوادر البحثية على القطاعات الانتاجية والخدمية والقطاع الخاص، لتوفير الاستشارة الفنية المباشرة، وتوصيل نتائج البحوث والتجارب إلى تلك القطاعات، والاشراف على تنفيذها. ويمكن للدولة أن تستعين بأبنائها الخبراء المغتربين الذين اكتسبوا الخبرة في البلدان المتقدمة، وتكون فريق قومي يجتمع دوريا لمتابعة مسيرة البحث العلمي وتقديم النصح للباحثين عامة. كما يمكن الاستفادة من ابنائنا في المنظمات الدولية كمنظمة الأغذية والزراعة FAO والصحة العالمية WHO وكذلك العاملين في المؤسسات التمويلية كالبنك الدولي والصناديق العربية والبنك الإفريقي والمنظمات الاخرى IFAD مثلا، لدعم البحث العلمي في السودان ماديا وفنيا. وتعتبر الجامعات والمعاهد الفنية الأساس في تطوير البحث العلمي، فأساتذة هيئة التدريس مطالبون بتمكين الطلبة من زيادة المعرفة ومواكبة التطور في العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، وتكثيف البحوث والدراسات المرتبطة بمشاكل الانتاج والخدمات، وربط بحوث الماجستير والدكتوراة بالقضايا الملحة التي تعالج المشكلات الكبرى في الانتاج مثلاً، كاستنباط سلالات نباتية وحيوانية جيدة مقاومة للجفاف والآفات وتقلبات البيئة، ومحققة لزيادة الانتاج. وليس موضوع ارتفاع سعر الطماطم في الصيف الماضي ببعيدٍ، حيث وصل الى أعلى من سعر التفاح المستورد.. ولعل من أبرز الحاجات المطلوبة من الجامعات والمعاهد الفنية هي: 1 الربط بين الجامعات والمعاهد الفنية والتعاون المثمر بينهم جميعاً في تبادل المعرفة وتنشيط البحث العلمي بصفة عامة. 2 تزويد دور الجامعات بشبكة الكترونية لتسهيل وتفعيل وسرعة تبادل المعلومات، وربط ذلك بالمعاهد العلمية الدولية لتغذية الجامعات بالمستجدات في العلوم المختلفة. 3 دعوة أساتذة الجامعات من الدول المتقدمة والخبراء والعالميين لإلقاء محاضرات في جامعاتنا، والمساهمة في الدورات التدريبية وورش العمل والتجارب البحثية. 4 توفير الفرص لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد الفنية وفنيي المعامل لحضور دورات تدريبية في الخارج لنقل التكنولوجيا الحديثة الى البلاد، بالإضافة إلى إرسال العاملين في الابحاث لزيارة محطات الأبحاث المتطورة والمشاريع الرائدة في البلاد المتقدمة. 5 اعادة النظر في قوانين ولوائح الجامعات والمعاهد الفنية، لتوسيع نطاق العمل البحثي وتطويره، وإزالة المعوقات الروتينية والبيروقراطية. 6 إثراء المكتبات في الجامعات والمعاهد وتوفير الآليات المساعدة والمراجع الحديثة ووسائل الطباعة والنشر والتوزيع. 7 استثمار وتسويق البحث العلمي عن طريق مشاريع مشتركة مع دول متقدمة وغنية لتقوية العلاقات علميا واقتصاديا. وحيث أن الحقل والمعمل والمال العام هي العناصر الاساسية للبحث العلمي، فعلى الدولة أن تراجع امكاناتها في تلك العناصر، وتعمل على سد الثغرات ووضع مخطط قومي سليم للبحث العلمي. وأخيراً نتطلع إلى قرار جمهوري حاسم يقضي بإنشاء مجلس أعلى للبحث العلمي ومجلس وزاري لوضع الخطة الاستراتيجية المستدامة لاستخدام البحث العلمي في التنمية والخدمات، ووضع الرؤى المستقبلية والمهام المنوطة بها واولوياتها على المستوى القومي الشامل، واعتماد ذلك في ميزانية الدولة وبرامجها المستقبلية، مع وضع خطة محكمة لربط البحث العلمي بالوزارات والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، لتفعيل دور البحث العلمي في التنمية والخدمات. ولكي تكتمل حلقة البحث العلمي ولضمان تطبيق نتائج الدراسات والأبحاث والتجارب، لا بد من تكوين لجنة فنية للمتابعة والترشيد والمحاسبة تكون لديها الصلاحيات المطلقة في معالجة المشكلات التي قد تعترض مسيرة البحث العلمي والتطور التكنولوجي في البلاد. وندعو الله أن يكلل جهود المسؤولين في هذه المهمة بالنجاح والعمل لما فيه خير ورفاهية سوداننا الحبيب. والله ولي التوفيق.