عندما يتحدث الناس عن العودة الطوعية، فإن ذلك يعني أن الوضع السياسي والاقتصادي في السودان وصل الى درجة من الاستقرار ليست فقط مشجعة على الهجرة العكسية أو قل العودة طواعية للاستمتاع بخيرات البلاد وأمنها، بل وصلت درجة تدفعك دفعا نحو الوطن وأنت مطمئن على مستقبلك من حيث العيش الرغد والسكن والتعليم والصحة والأمن إلخ.. بالاضافة لاسترداد آدميتك المفقودة وإرداتك التي كانت مرهونة ردحا من الزمان للكفيل «صاحب العمل بالخارج»، أو لقيود تلك البلاد ومواطنيها. وهذا لعمري كان بالإمكان أن يحدث لو أدرك سياسيونا حجم معاناة المغترب والمواطن داخل بلده المغلوب على أمره. وهنا تقع المسؤولية المشتركة بين الحكومة والمعارضة وحركات التمرد في إطالة أمد الغربة أو تقصيرها، ذلك أننا في الغربة مازلنا نحلم بوطن آمن يلّم الناس كل الناس، خال من أية حالة تمرّد أو معارضة سافرة أو حكومة قاسية، حتى لا تهدم ما بقي من البنيات الحياتية وتسرق ما علق من أمانٍ عذبة تراودنا بين الفينة والأخرى، وحتى لا تشرّد أحلامنا الحلوة والبشائر التي تحاول أن تعلن أن السودان بلد أكثر من كونه نفطيا وزراعيا ووسيعا، ولكل الناس بلا عنصرية ولا جهوية. إن المغترب يعيش حالة ما بين تلك الأمنيات والآمال المشروعة التي تغازله كل يوم، وبين أمواج من الجهد النفسي والبدني، وأحيانا البؤس والشقاء يجتاحه صباح مساء فيسلبه كينونته الآدمية وحريته الناقصة. هناك حزمة عناصر فاعلة وواقعة توقع المغترب في فخّ سجن الغربة، منها الحاجة المتزايدة للأسرة الممتدة لعطائه على قلّته، في ظل سياسة توطين الوظائف المعلنة وغير المعلنة التي تتمثل في تخفيض الرواتب والامتيازات كالتأمين، وسياسة رفع الإيجارات، أضف إلى ذلك إمكانية إحالة موظف مقتدر سوداني ليحل محله موظف وطني، بالإضافة لمشكلات أخرى كثيرة، منها مشكلات تعليم البنين والبنات على مختلف مستوياته، بما في ذلك التعليم الجامعي. وهذا كله جزء يسير من المشكلات التي بلا شك تجعل من العودة موسم هجرة إجبارية وليست طوعية مع إيماننا القاطع بأن برنامج العودة هاجس يؤرق كل طائر مرتحل جرفته رياح الظروف إلى خارج حضن الوطن الدافئ «غرقان» في بحر الأشواق ومحاصر بضغوط الغربة بلا رحمة. وعليه أعود فأقول إن المغترب السوداني في لهفة وشوق لموطنه الذي غنى له شعراً صلاح أحمد إبراهيم وإسماعيل حسن وآخرون أوفياء كثر وفقط، ولكنه يبقى في انتظار إعادة أحلامه وآماله المسروقة، ولن يبلغها إلا في حالة الوصول لاستقرار أمني واقتصادي، والبقية تأتي بعد ذلك، سواء أكان ذلك في التعليم أو الصحة أو العلاج، وغير ذلك من مسكن يأويه ووظيفة تسد رمقه. والمغترب المغلوب على أمره في انتظار بادرة أمل لتحويل السودان من بلد الفقر والحرب والمرض إلى بلد النفط والزراعة والوفاق الوطني ووحدة الهدف والمصير. وهذا لا يتأتي إلاّ في حالة سدّ الطريق أمام كل من يحاول شق صفوفنا وكلمتنا ووحدتنا بطريقة أو بأخرى، دون استسلام للظروف أو فقدان للأمل. وهذا واقع علاجه عند الحكومة والمعارضة والتيارات الخارجة بلا منّ ولا أذى، ولا كسب سياسي.. لخلق سودان مستقر سياسياً وأمنياً واقتصادياً.. حينها يستطيع المغترب أن يحزم أمتعته ويعود بنفس اللهفة والانتماء، وبعدها يكون قد استردّ أحلامه المسروقة..!! [email protected]