يبدو أن رياح الثورات الشعبية التي اندلعت مؤخراً في المنطقة العربية ،قد ألقت بظلالها على الأوضاع في السودان المنشطر لتوه الى دولتين .وقبل اندلاع هذه الثورات كان الحديث عن الفساد في الدولة السودانية من التابوهات المحرمة .فلم يكن هنالك من يجرؤ على التساؤل علانية عن العمارات الشواهق التي تخترق سماوات خرطوم المترفين الجدد هكذا فجأة وبلا مقدمات.وقبل عدة أعوام لم تكن حتى مفردة «فساد»بحروفها الخمسة تجد مكانها في وسائل الاعلام المحلية بالبلاد ،«على عكس انتشارها فعلياً في القطاعين العام والخاص» ،فحلت مترادفات ذات دلالات مخففة مكانها ،لتوصم عمليات الفساد الكبرى والصغرى بالتجاوزات و«التجنيبات» والمخالفات التي لطالما وُبخَ مرتكبوها بالعبارة الاثيرة «عفا الله عما سلف» ،لتتصدر أسماؤهم صفات وظيفية جديدة عقب التوبيخ مباشرة، كما يحفظ ذلك ارشيف الدولة السودانية وسجلات المراجع العام خلال العقدين الماضيين .لكن الفترة الاخيرة التي استشرى فيها الفساد وأزكمت رائحته الانوف واكتظت الشوارع بفارهاته ،فقد حظي أخيراً باعتراف السلطات الرسمية السودانية،ليدرج في وسائل الاعلام ومحاضر السلطة التنفيذية باسمه الحقيقي «الفساد»..الذي لن تسامح الدولة مرتكبيه بعد الان ،حسبما أكد على ذلك الرئيس عمر البشير في التاسع عشر من فبراير الماضي ،مشيراً عقب مخاطبته لآلاف المصلين بمسجد النور بالخرطوم أن حكومته بصدد تشكيل مفوضية لمحاربة الفساد بالبلاد. متعهداً بمحاربة الفساد والمفسدين وعدم المسامحة في أي تجاوزات،ليسترسل البشير مؤكداً على أن المفسدين لن يجدوا تساهلاً من الدولة ،مبيناً أن مفوضية مكافحة الفساد المرتقبة ستضم شخصيات قومية ،قبل أن يناشد المواطنين بتقديم أي وثائق تثبت تورط مسؤولين في عمليات الفساد الى المفوضية حتى تباشر مهامها بالتحقيق فيها ومحاسبة المسؤولين عنها..تصريحات البشير عن محاربة الفساد والتي سبقتها توجيهات نائبه علي عثمان محمد طه بملاحقة المفسدين، فسرت من قبل المعارضة السودانية بكونها مجرد محاولات لسد الذرائع واغلاق الابواب أمام تسونامي التغيير الذي يجتاح الدول المجاورة هذه الايام ،فيما تؤكد السلطات المختصة بان توجيهات الرئيس ستتنزل على أرض الواقع في القريب العاجل مشيرين الى أن موجة الاعفاءات التي طالت وزراء دولة ووكلاء وزارات في الاونة الاخيرة تعتبر عنواناً للمرحلة المقبلة التي ستشهد رقابة صارمة تضطلع فيها المفوضية المزمع تشكيلها بدورها الرقابي بمساندة الهيئة التشريعية القومية .بيد أن ثمة شكوك جديدة حول جدية الحكومة في تبني سياسات المحاسبة وتفعيل الرقابة قد أطلت بوجهها من جديد عقب حديث رئيس الهيئة التشريعية القومية الاخير أحمد ابراهيم الطاهر الذي أدلى به للزميلة «السوداني» قبل أيام عندما سٌئل عن أسباب ضعف الدور الرقابي للبرلمان ،لتأتي الاجابة بان مسؤولية الرقابة في جميع المجالس التشريعية التي رأسها «جميعها في عهد الانقاذ طبعاً» مسؤولية ربانية وليست مسؤولية دولة ،مضيفاً بان واجبه أمام الله يقتصر على الاشراف على الامر فقط.وهو الامر الذي يشئ بانه لاجدوى من انتظار مساءلة المفسدين وسارقي المال العام من خلال البرلمان السوداني الذي يترك أمر المحاسبة والرقابة للعناية الالهية ،دون أن يقوم بدوره الطبيعي في الرقابة والمحاسبة كبقية برلمانات العالم كما يرى كثيرون، يشيرون الى أن حديث الطاهر على غرائبيته يعتبر تمظهراً طبيعياً لطرائق عمل الدول الدينية الثيوقراطية والتي تعتمد على الغيبيات في ادارة القضايا الحيوية للناس حسبما يمضي لذلك القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي «الاصل» الدكتور علي أحمد السيد المحامي مردفاً أن مثل هذه التصريحات الغريبة من الرجل الذي يفترض أنه يمثل الشعب ومصالحه هي ماتجعلهم يصفون مجهودات الحكومة لدرء الفساد ومحاربة مرتكبيه بغير الجادة ،مضيفاً أن الاعتماد على العناية الالهية وحدها في محاربة الفساد لاتعتبر حلا عملياً ناجعاً للفساد الذي انتشر في جميع مفاصل الدولة السودانية ،لان مكافحة الفساد ومحاربته حسب علي السيد تعتبر من أولى أولويات السلطان الذي يجب عليه أن يتقي الله في مصالح الشعب بتقديم المفسدين للمحاكمة في الدنيا ،ليتركهم لخالقهم في مايختص بحساب الاخرة ،ويرى السيد أنه وللخروج من كل هذه الالتباسات فانهم يدعون لدولة مدنية ديمقراطية يسود فيها حكم القانون ،حتى يحاسب من أفسد وتصان فيها حقوق الناس ..ومابين دعوات المعارضة لتغيير نظام الحكم وبالتالي ايجاد الصيغ الملائمة لمحاربة الفساد وتمترس الحكومة أمام تدبيراتها الأخيرة التي تهدف الى محاصرة الفساد عبر مفوضية مختصة بمحاربته ،تظل صورة الفساد في السودان الذي يحتل المرتبة 172 مع مؤشر 1.6 كما هو وفق أخر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية وهي منظمة غير حكومية تتخذ من برلين موقعا لها ،ويأتي ترتيب السودان المتأخر في ترتيبها لاكثر الدول مكافحة للفساد من خلال مؤشر مدركات الفساد للمنظمة والذي يقيم ويرتب الدول طبقاً لدرجة ادراك وجود الفساد بين المسؤولين والسياسيين في الدولة، وهو مؤشر مركب يعتمد على بيانات ذات صلة بالفساد تم جمعها عن طريق استقصاءات متخصصة قامت بها مؤسسات مختلفة ومستقلة وحسنة السمعة. كما تقول المنظمة على موقعها على الانترنت، مبينة أن ترتيب السودان في الفساد يعكس أراء أصحاب الأعمال الكبار والمحللين ،متضمنا أراء متخصصين وخبراء. لتضيف أن السودان كغيره من الدول قد وضع أيضاً على مؤشر مدركات الفساد من قبل البروفيسور جون قراف لامسدورف ، من جامعة باساو في ألمانيا وهو باحث ومستشار لمنظمة الشفافية الدولية، للعمل على مؤشر مدركات الفساد بطلب من المنظمة ذاتها . حيث يركز المؤشر على الفساد في القطاع العام ويعرفه بسوء استغلال الوظيفة العامة من أجل مصالح خاصة. وتطرح الاستقصاءات المستخدمة في اعداد المؤشر أسئلة ذات صلة بسوء استعمال السلطة في السودان لتحقيق مصالح شخصية بالاضافة الى الوقوف على مدى نجاعة جهود مكافحة الفساد،كما لا تميز مصادر المنظمة بين الفساد الاداري والفساد السياسي .وعلى الرغم من أن الخرطوم لم تبارح موقعها الثاني والسبعين بعد المائة بعد ،في تقرير منظمة الشفافية الدولية الأخير ،الا أنه لا يوجد شخص في السودان فوق القانون،كما يؤكد على ذلك القيادي بالمؤتمر الوطني محمد الحسن الامين الذي أكد في تصريحات صحفية أمس الاول أنهم عازمون على المضي قدما في محاربة الفساد ،ليستدرك مشيراً الى أنهم يؤثرون التروي في تقييم الأحداث لذلك لايقومون باتهام الوزراء والمسؤولين،ليضيف قائلاً:« واذا تحدثنا عن أين المال وحجم المال الكبير لا تجد من أسماء الوزراء الا أنه قد يكون الوزير مقارنة بالموظف وضعه أحسن، لكن معظم الحديث عن المال يدور حول غير الوزراء وفي أيادٍ أخرى».لكن الوزراء السودانيين هم الوحيدون بين أقرانهم في العالم الذين لايقومون بكتابة اقرارات ذمة مالية تواضع الحكام وكبار المسؤولين على القيام بها ،لتقدم بدورها لهيئة مستقلة، يساعد في عملها قانون يختص بمكافحة الكسب غير المشروع كما يفصل ذلك المحلل والباحث الاقتصادي تاج السر مكي الذي أكد في حديثه لمؤسسة «دويتشه فيله» الاعلامية الالمانية أن موظفي الدولة السودانية من وزراء وولاة ومحافظين ومستشارين، امتنعوا عن الاقرار بذممهم المالية، طيلة عشرين عاماً. مدللاً على زعمه بأنه منذ صدور قانون الثراء الحرام عام 1989 وتكوين الهيئة المنفذة للقانون التي تأسست في نفس عام صدور القانون، لم يتقدم مسؤول لتبرئة ذمته المالية، مبيناً أن المسؤولين ظلوا طوال هذه الفترة يتهربون من ملء الاستمارة التي أعدتها الهيئة لتبرئة ذممهم المالية.ويذهب تاج السر بعيداً، ليؤكد على أن انشاء مفوضية سلطوية لمكافحة الفساد في الخرطوم لن يسهم أبداً في كبح جماح آفة الفساد، متنبئاً بان لا تتمكن المفوضية المرتقبة من محاسبة مسؤول واحد، خصوصاً وأنها مفوضية تتبع لذات السلطة التي وصفها بالفاسدة. الا أنه يضيف قائلاً: «ان الشعوب هي التي سوف تحاسب حكامها على ما ارتكبوه من مظالم ومفاسد». [email protected]