٭ ضابط متقاعد ممن كانوا قد شاركوا في حملة استرداد حلايب - قبل أن ينزع عبدالناصر فتيل الأزمة - ذكر لي قبل سنوات حديثاً استحضره بشدة هذه الأيام. ٭ قال إنه كان من العسكريين الرافضين بشدة لفكرة استلام الجيش للسلطة عبر انقلاب عسكري.. ٭ وأنه بسبب موقفه هذا - حسب قوله - كان من أوائل الذين أطاح بهم نميري عقب انقلاب مايو.. ٭ وكان هذا الضابط قد شارك كذلك - للعلم - في حرب اكتوبر «73» ضمن الكتيبة السودانية.. ٭ مما كان قد ذكره لي هذا الضابط (العظيم) - والعظمة لله - أن الطبائع النفسية التي يكتسبها الضابط منذ لحظة التحاقه بالكلية الحربية تجعل من أمر اقتحامه مجال السياسة باروداً قابلاً للاشتعال في وجوه المدنيين.. ٭ فهو - حسب الضابط هذا - يضحي خطراً على المواطنين متى قُدِّر له أن يكون رئيساً - عبر إنقلاب عسكري - أو وزيراً أو مسؤولاً نافذاً.. ٭ فسوف يصعب عليه حينها التمييز - والكلام ما زال للضابط - بين «عسكريين» يجب أن يطيعوا أوامره، وبين «مدنيين» عليهم أن يفعلوا الشئ نفسه.. ٭ ويصعب عليه التمييز بين أراضٍ محررة عسكرياً، وبين وطن بأكمله محرر - حسب ظنه - بانقلاب عسكري.. ٭ ويصعب عليه التمييز بين مجلس عسكري للتداول في شؤون الحرب، وبين مجلس نيابي للتداول في شؤون البلاد والعباد.. ٭ ويصعب عليه التمييز بين عسكري «منضبط» عليه أن «يرفع التمام»، وبين مدني من حقه أن يوافق وأن يعارض وأن يرفض «رفع التمام» لما لا يعجبه.. ٭ ويصعب عليه التمييز بين «روح» مستباحة في ساحة الحرب، وبين «روح» مُحرَّمة في ساحة السياسة.. ٭ والأمثلة من هذه الشاكلة كثيرة حسب الذي ذكره الضابط المتقاعد ذاك في سياق حديثه التحذيري من مغبة وقوع العسكر في براثن شهوة السلطة.. ٭ ورغم رفضي «الفطري!!» لأي دكتاتورية - عسكرية كانت أو مدنية - إلا أن ذاك التشخيص المنطقي لمخاطر العسكريين على المدنيين في ظل الأنظمة الإنقلابية زاد من يقيني بضرورة تحليِّ «النظاميين!!» ب «النظام!!».. ٭ و«النظام» الذي أعنيه هنا هو مثل ذاك الذي نشاهده في البلدان «المتحضرة!!» حيث السياسي سياسي، والعسكري عسكري، والشرطي شرطي.. ٭ هل سمعتم بإنقلاب عسكري في أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو النمسا رغم الأزمات السياسية الطاحنة التي تُبتلى بها إحدى الدول هذه من حين لآخر؟!.. ٭ لو كنتم سمعتم لكنتم - بالتالي - سمعتم بمثل هذا الذي يحدث من حولنا هذه الأيام من سحل ومجازر وحمامات دم.. ٭ فكل الدول التي يُعامل «مدنيوها!!!» الآن في «الميادين العامة!!» وكأنما هم «عسكريون!!!» أعداء في «ميادين القتال!!» أنظمتها جاءت عبر إنقلابات عسكرية.. ٭ وتتجلّى هنا - في أبشع دلالاتها - المخاوف التي كان قد أثارها أمامي ضابطنا المتقاعد حال استلام العسكريين السلطة.. ٭ وحين أقول «في أبشع دلالاتها» فذلك لأن مسيرة مثل هذه الأنظمة لا تخلو عادةً من تعدٍّ متواصل على حقوق «مدنية!!» أصيلة قد يبلغ حد إزهاق الأرواح بعد السجن والتعذيب وما دونهما.. ٭ وهنا في السودان - مثلاً - لم يحدث منذ الاستقلال أن قُتل معارض أو «متظاهر»، أو عُذِّب شخص بسبب مواقفه السياسية، أو حورب في رزقه إنسان لعدم «موالاته» إلا في ظل أنظمة عسكرية.. ٭ فالأنظمة الديمقراطية على علاَّتها - في السودان - تحترم حقوق الإنسان وفقاً لقوانين «الدين!!»والدنيا معاً.. ٭ والآن أنظروا إلى الوسيلة التي يتعامل بها العسكريون مع شعوبهم الثائرة من حولنا.. ٭ أليست الشعوب هذه في نظر حكامها «العسكريين!!» هم بمثابة جنود «تمردوا!!» يجب التعامل معهم وفقاً للقوانين «العسكرية!!» في مثل هذه الحالات؟!.. ٭ فلا غرو إذاً أن يُنظر إلى «ميادين التحرير» على أنها «ميادين قتال» يجوز فيها استخدام المدفعية والرشاشات والراجمات والدبابات.. ٭ ولا عجب أن تتجاوز أعداد القتلى المئات والجرحى الآلاف.. ٭ ولا غرابة في أن «يهيج!!!» الحكام العسكريون جراء محاولة «استرداد!!» أراضٍ - بحجم البلد - تم «تحريرها!!» ليلة «الإنقلاب!!».. ٭ ولكن منذ الآن - فصاعداً - طوبى للجرذان والمقملين و«الشحادين!!» والمُطالَبين ب «لحس أكواعهم !!» بحقبة جديدة لا مكان فيها للذين لا يميِّزون بين «المدني!!» و «الجندي!!».. ٭ ولابين المجالس «النيابية!!» و المجالس «العسكرية!!».. ٭ ولا بين ميادين «التحرير!!» وميادين «القتال!!».. ٭ حقبة تُحرر فيها - بإذن الله - الحياة «المدنية!!» حارةً حارة.. ٭ وبيتاً بيتا .. ٭ وشبراً شبرا.. ٭ وزنقةً رنقة..