تعرضت الزميلة المحترمة والصحافية المجوّدة مزدلفة محمد عثمان رئيسة قسم الأخبار بالغراء «الأحداث» يوم الاربعاء الماضي للاحتجاز بمباني رئاسة الجهاز القضائي بالخرطوم بحري لاكثر من ساعتين، علماً بأن رئاسة الجهاز القضائي ليست هي الجهة القانونية المناط بها إستدعاء «المتهمين» والمطلوبين واجراء التحريات معهم، وقد سارعت رئاسة الجهاز لاخلاء سبيلها دون اكمال التحري الذي بدأته معها، فبدت وكأنها قد اكتشفت خطأها الذي ما كان لها أن تقع فيه إبتداء، فصححته بعد مضي أكثر من ساعتين باخلاء سبيل الزميلة وإخطارها بأن أمرها سيحال إلى الجهة الصحيحة وهي نيابة الصحافة والمطبوعات، والشاهد هنا هو أن مثل هذه الممارسات الخاطئة لبعض الجهات القضائية قد تكررت غير ما مرة، ومن ذلك أنني سبق أن تعرضت شخصياً للاستدعاء والتحقيق بمقر المحكمة الدستورية بواسطة نائب رئيسها وقتها عندما كنت أعمل مديراً لتحرير هذه الصحيفة «الصحافة» بعد أن إقتادني إليه مخفوراً أحد رجال الشرطة الذين يعملون بالمحكمة بتهمة نشر الصحيفة لاعلان تجاري لم ترض عنه المحكمة، فتأمل عزيزي القارئ في هذه المفارقة التي أحالت المحكمة الدستورية بكل ما يحيطها من أبهة وهيبة باعتبارها مفسرة القوانين والرقيبة على دستوريتها إلى محكمة إبتدائية تعج بالشاكين والمتهمين والمحامين وكتبة العرضحالات وجمهور عريض من العطالى و«الشمشارة»، ويتحول نائب رئيسها بكل علمه القانوني الذي بوّأه هذا المقام الرفيع إلى رقيب أو مساعد شرطة يباشر التحري بنفسه مع كامل التقدير والاحترام لكافة منسوبي الشرطة، من كان في أول الطريق وإلى الفريق أول، ومن المفارقات المبكية والمضحكة معاً هو أنني أيضاً تعرضت للاحتجاز كرهينة بواسطة إحدى النيابات لحين العثور على المستهدفين أصلاً، وكانا هما عادل الباز رئيس تحرير الصحيفة حينها وزهير السراج أحد أبرز كتابها وتلك قصة أخرى. المهم أن ما حدث للزميلة مزدلفة قد حدث بسبب نشر صحيفتها لخبر صحيح باعتراف رئيس الجهاز نفسه، إلا أن الذي أغضبه هو من سرّب هذه المعلومات الصحيحة للصحيفة من العاملين معه بالجهاز، فحاول أن يتخذ الزميلة مزدلفة «مطية» للوصول إلى مصدر المعلومة، ولكنها طوبى لها، رفضت باباء وشمم مهني أن تحني قامتها المهنية المديدة وامتنعت عن كشف المصدر ليس لأن ذلك حقها القانوني الذي يخوّله لها قانون الصحافة والمطبوعات بل قبل ذلك لأنه شرف المهنة الذي لا يمكن أن يؤتي من قبلها، وأبدت إستعدادها لتحمل أية تبعات يمكن أن يجرّها عليها موقفها المهني الصحيح والقوي، لها تحياتنا التي لا بد أن نمددها لتشمل زميلنا الآخر مكي المغربي أمين الحريات باتحاد الصحافيين الذي خفّ لنصرتها على الحق، حق الناس في أن يعلموا أية معلومة صحيحة تهمهم وتتصل بشؤون حياتهم المختلفة، وحق الصحافيين في حماية مصادرهم الموثوقة والتي لسبب أو لآخر لا يرغبون في كشف هوياتهم، ولو أن الصحافيين تخاذلوا وخاروا عن حماية مصادرهم، لخرّبوا بيوتهم بأيديهم، ونقضوا غزل حريتهم بأنفسهم، ولأفقدوا الصحافة مصادر مهمة وحيوية، ويحضرني في هذا المقام الموقف القوي والمشرف للصحافية الاميركية جوديث ميلر التي فضلت زنزانة الحبس التي قضت فيها زهاء الثلاثة أشهر على أن تخذل مهنتها وتطعن شرفها بكشف أحد مصادرها الصحفية. التحية لمزدلفة ولجوديث ولكل صحافية مهنية قوية وشجاعة لا تخشى لومة لائم أو كيد لئيم يحاول أن يسلبهن شرفهن المهني.