توفي قبل أسبوعين أو نحوه بالقاهرة الأستاذ نجم الدين محمد نصرالدين المحامي والصحافي. ويتداعى زملاؤه لتكريمه وتأبينه مساء هذا اليوم بدار المحامين. وأنشر هنا الجزء الأول من مقدمتي لكتاب أعده للنشر في ظروف صراع للمرض عصيبة. وعنوانه «مقاربات قانونية» ضمنه كتاباته عن القانون والعدل في الصحف السيارة. أتشرف أن كان لي دور في صدور هذا الكتاب على صورته الحالية. فقد كان يريد الأستاذ نجم الدين أن يصدر كل مقالاته الراتبة في الصحف في كتاب جامع. وأطلعني على المسودة فاقترحت عليه أن يعزل عن جملتها ما كتبه في باب القانون ، وهو مجال شغله، ويخصص له كتاباً مرقوما. فقد نظرت إلى ما يكتبه نجم في هذا النطاق باحترام كبير. فقد التزم بصورة مهنية أن يطلعنا (وهو لزوم ما لا يلزم) على مصائرحرياتنا وحقوقنا في ظل دولة تضيق بهما ومنهما باستعمال القانون وغير القانون. وهذا باب كبير في بركة المعرفة - أي - العلم النافع. فلكل علم مثل القانون تفانين في المصطلح والتقعيد تحجبه عن الرجل العادي فيتخبط من مس القانون بغير هدى. ولا هدى إلا أن ينتدب شخصاً ذا مروءة مثل نجم نفسه ويدنو بنا من مشرب القانون. فهو هنا مثل سيزيف الذي سرق النار من أولمب الإرباب وأشاعها بين البشر. وندعو الله أن لايلقى جزاء سيزيف المعروف وأن نكافئه بقراءته والتبصر في مقاصده. إن تنزيل القانون إلى غير المختص شهامة لا يقوى عليها إلا ضمير مهني ساهر وقلم ذرب. فلا يصدر قانون مثل لائحة تزكية المجتمع حتى يستفز ذلك قلمه ويكتب عن عيوبها. فيذكرنا بأنها إعادة إنتاج لقانون النظام العام. فلم يستقر بعد للائحة أن «الأخلاق» تقع هي الأخرى في باب التنوع الثقافي الذي تواضعت الأمة على اعتباره والوفاء بمستحقاته. ومتى حضر نجم ندوة عن قانون الصحافة حتى نقل لقارئه بغير إبطاء ما دار فيها من أمر المادة (130 أج 1-2. ) وهي مادة جرَّمت الصحافة كعرض من أعراض السلامة العامة. وهكذا أصبحت السلطة الرابعة عرضة للإيقاف كما توقف علب الساردين التي انتهت صلاحيتها. يستحسن نجم الدين القوانين السودانية الإجرائية (قانون الإجراءات المدنية وقانون الإجراءات الجنائية) والموضوعية (قانون الشركات لعام 1925م) التي ترعرعت في ظل دولة الاستعمار على هدى القانون الإنجليزي العام. ويعتقد مثل كثير ممن تشرب القوانين بالدرس والممارسة أنها إرث سوداني حوى قبساً وافر الحظ من العدالة. ولا تثريب. ولكن عدالة هذا الأرث المتسودن ينبغي أن تنهض في ذاتها ولذاتها لا بالنظر المستطيل إلى «الثورات» القانونية التالية التي جعلتها أدراج الرياح مثل القانون المدني (1971) وقوانين سبتمبر ( 1983) وطائفة القوانين التي شرَّعتها دولة الإنقاذ منذ 1989 ، وسيحمد لنجم أنه ثابر في كتابه هذا على بيان دقيق لمَّاح لفضل إرث القانون العام على لواحقه. وأنا ممتن له لأنه نورني كأحد العوام على عيوب قانون الإجراءات الجنائية للعام 1991 فقد وصفه بأنه ردة في ميزان العدالة حتى على قرينه للعام 1983 على عهد النميري. فقد جاء بنظام النيابة (وهو نظام مستمد من القانون الأوربي القاري مثل فرنسا ومصر) ورهن به إجراءات البلاغ والتحري وتقدير التهم. وكل ذلك كان بيد القاضي في إرثنا السوداني الإنجليزي. والنيابة مباءة. فهي جزء من الجهاز التنفيذي وتصلح به وتسوء به خلافاً للقضاء المصون بالاستقلال كفرع مستقل من فروع الدولة: تنفيذي وتشريعي وقضائي. وينذر إحالة التحري وأعرافه للنيابة بنذر السوء لمجرى العدالة في مثل الأوضاع المعلومة عن نظمنا التنفيذية القابضة. وولدت القطة السوداء قطة سوداء. فقد أصبح للنيابات المتخصصة مثل نيابة البنوك أو سوداتل والعوائد والكهرباء محاكم متخصصة تعرض عليها البلاغات المقيدة بواسطة النيابة صاحبة الشأن. وعرض نجم متاعبه كمحام في أروقة تلك المحاكم التي فرطت في التحري وتركته للنيابة. وهي شكوى ترى بنفسك بها أن المحاماة اصبحت مهنة نكد حقاً. ونجم قلم ملحاح. يضرب على الحديد الساخن لا يني. فهو يعود في مناسبة احتفال القضائية بعيدها الخمسين للتذكير بأن السياسة قد اقتحمت المهنة في ظل أنظمة شمولية طالت . . . واستطالت بالإنقاذ. فلم يعد يجدي تعريف عمل القضاء بالتجرد من السياسة. فقد اقتحمته السياسة عبر العقود الماضية. فقد أصبح إنشاء محاكم خاصة من غير القضاة الطبيعيين فاشياً. بل أصبح دمج القضاة في النظم السياسية الحاكمة ممارسة عادية. فقد جعل نميري رئيس القضاء عضواً بالمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي وفَوَّجت الإنقاذ القضاة في متحركات الدفاع الشعبي. ناهيك عن تغول النيابات على اختصاصات القضاة التقليدية في الإرث القانوني السوداني الإنجليزي في القبض والحبس وفتح البلاغ وتجديد الحبس. فالقضائية قمينة بأن تحتفل لا بكر السنين بل بعكر السنين عليها حتى تستنهض قواها الباطنة للإصلاح. وهذه مهارة لم تسفر عنها القضائية أبداً كما خلصت إلى ذلك في كتابي عن تاريخ القضائية الصادر في الإنجليزية عن دار برل بهولندا في العام الماضي. فالقضائية رهنت إصلاحها بتغيير النظم ثورياً لا بالسعي غير المنقطع للإرتقاء بنفسها تدريجياً. ونبه نجم إلى مسألة المحكمة العليا والمحكمة الدستورية. فقد كانت المحكمة الدستورية مجرد دائرة من دوائر المحكمة العليا ففتقتهما دولة الإنقاذ فتقاً له مترتبات على مقتضى العدالة. فالدستورية اصبحت رقيباً على أداء المحاكم وليس درجة من درجاتها كما يذهب البعض. وأصبح لها بذلك حق مراجعة الإجراءات في طور متقدم من أطوار التقاضي. وفي هذا تأخير للعدالة لأنه ينقض المادة (76) من قانون الإجراءات المدنية التي أمنت مثل تلك الإجراءات من التعقيب حولها متى اكتملت ضمانة للسير الحسن الحثيث للعدالة. واصبحت هذه السلطة القضائية الرقيبة، - أي - المحكمة الدستورية، مقصودة من قبل المحتكمين من خاسري الأحكام ممن يتهددون خصومهم باللجوء للدستورية التي ربما بدأت المحكمة من أول وجديد. وهذا تكريه في طلب العدل عن طريق المحاكم لشبهة الدائرية فيه. ونكمل هذا الحديث في المرة القادمة.