مصطلح التفكيك هو التعبير اللاتيني المستخدم من قبل دريدا للدلالة على نوع من القراءة تشتغل من داخل النصوص الفلسفية او الادبية تعمل على خلخلة ابنيتها المعتمدة على الثنائيات الضدية، مثل الصوت والصمت، الخير والشر، اللسان والكتابة، الدال والمدلول، المحسوس المعقول، التعاقب التزامن، السكون الحركة الخ.. وبيان أن هذه الثنائيات ذات علاقة بجاذبية قائمة بين قطبيها، وهو ما يلغي مركزية احدهما وهامشية الآخر، ويضع القطبين معاً في وضعية حاجة احدهما الى الآخر، اي في وضعية مغايرة لذاتهما. فالصوت في حاجة ضرورية للصمت والعكس صحيح. وكذلك الشأن بالنسبة لجميع الثنائيات الضدية الاخرى. وقريب من مصطلح تفكيك مصطلح الهدم الذي وضعه مارتن هيدغر «1889 6791م» ويعني المنظور المنهجي للبداهات التي تتماشى مع الاصول. ويمكن الحديث هنا عن الثوابت والمتغيرات وعن مفهومي الطبيعة والمكمل اللذين جعلهما دريدا محورا اساسيا في تفكيك معظم النصوص الفلسفية والادبية التي تناولها بالتحليل. ومعلوم أن الفلسفات ذات الاساس الميتافيزيقي كانت تعتبر الطرف الثاني من الثنائيات الضدية المذكورة مكملا او متغيرا بالقياس الى الطرف الاول من تلك الثنائيات. ويبدو من الناحية المنطقية أن وجود المكمل شرط لوجود كل ما هو طبيعي، ولا يمكن للطبيعي ان يبدر أو يثبت حضوره إلا بمكمله، والتفكيكية تريد أن تجعل الغاء التمييز المطلق بين تلك الثنائيات وسيلة لإضفاء المشروعية على نوع من الالتباس منها، وتشتيت دلالاتها بالنسبة لسلم القيم الإنسانية. ويتكون مصطلح التفكيك من بادئة تعني النص ومصدر معناه البناء، ولكن المعنى العام للتفكيك هو التقويض. ولذلك قيل إن استخدام دريدا للكلمة يدل على الهدم والبناء معا، دون الحاجة الى تغليب طرف على آخر، وإذا كان التفكيك ينقض جديدا فإن ما يقيمه قابل هو ايضا للهدم. أما الباحث انور مغيث في مقدمة ترجمته المشتركة لكتاب «في علم الكتابة» لدريدا فيرى «أن سعينا للوقوف على تعريف محدد للتفكيك ربما يتعارض مع فكرة التفكيك نفسها التي تسعى الى خلخلة التعريفات المحددة. ويمكننا النظر إلى التفكيك بوصفه مساراً أو عملية أو حدثاً يقع بحسب تعبيرات دريدا». وهنا يقف في المواقع على عمومية تعريف التفكيك الى حد اعتباره مجرد حديث ما، وهذا أساس الالتباس في افكار دريدا. ومن المهم هنا التنبيه الى الاختلاف بين مترجمين لكتاب واحد من كتب دريدا في فهم الدلالات الفعلية لمفهوم التفكيك، وعلى العموم ستتضح أبعاد التفكيك المتباينة، كما سيتضح لنا اختلاف مترجميه ودارسي اعماله في تحديد أفكاره الواردة في اعماله الكثيرة. والتفكيك هو أحد اهم المصطلحات المعتمدة من قبل دريدا في قراءته التفكيكية، والمشكلة القائمة في تعريف دريدا للتشتيت راجعة أيضا الى انه يلجأ الى الاستعارة والكلام العام كلما طلب منه تحديد مفهوم او مصطلح مصطلحاته التي تشكل علامات بارزة في خطابه. كما نراه يجيب عن سؤال حول مدلول التشتيت بقوله «إن التشتت لا يعني في نهاية المطاف شيئاً ولا يمكن جمعه ضمن تعريف واضح. واذا كنا لا نستطيع ان نلخص التشتيت اي المغايرة الذرية.. فذلك لأن قوة وشكل ظهوره تفقأ الافق الدلالي». ونحن نرى ان العبارة الاخيرة تفقأ الافق الدلالي تبدو في الواقع خارجة الى حد كبير عن لغة النقد والتنظير.. وهي لا تضيف شيئا آخر الى المعنى الذي يمكن ان توحي به المدلولات لكلمة «تفقأ» مع بقاء مجال واسع للغموض في جميع الأحوال. وفي موضع آخر لاحق لما سبق، نراه يتجه نحو تحديد الممارسة التشتيتية، واصفاً إياها بأنها مقاومة مزدوجة وميثلوجيا بيضاء وإعادة مسرحة للمنطلقات الوهمية، والمفردات التقديمية، وكل العناوين والتعليقات التي توجد في النصوص، والهدف الاساسي كما قال هو: «فصل رأس النص عن جسده» لذا يرى أن التشتيت هو تعدد توليدي غير قابل لاجراء اي اختزال، انه شغب يعمل على اجراء شروحات في النص، ويقف دون العلاقة او اضفاء اية شكلنة ثانية عليه، ولا تزيد هذه «التوضيحات» كما نرى الامر الا غموضا بسبب اللغة الاستعارية المستخدمة في موضوع نقدي يتطلب عبارات محددة ودقيقة. وإذا ما نظرنا إلى الكتابة من زاوية نظر دريدا في ارتباطها بمدلولات التشتيت والبعثرة، نجد أن الذات حالما تنخرط في الكتابة لا تكون ضامنة للسيطرة الكاملة على معجمها، ولا على أبعاد ورصيد مفرداتها التاريخي، لذلك فقد يكون كلام الذات دالا اكثر بكثير مما كانت الذات تفكر فيه. ومن طبيعة كتابة الذات أنها تلجأ عن وعي او لا وعي الى تشتيت خطابها عبر الصلات المعقدة بين الأساليب والافكار والنصوص والإحالات التراثية والثقافية المتعددة، وعندئذٍ تصبح مهمة المفكك هي أن يحاول الوصول اولا الى النسق الظاهر الذي من المفروض أن يكون معبرا عن القصيدة المباشرة للنص، وبعد ذلك يبدأ في عملية التفكيك بناءً على تناقضات وتعارضات المكونات النصية ذاتها. والهدف الأساسي دائماً من هذه البعثرة هو إظهار الطبيعة المشتتة للنص، رغم مزاعم القصدية والانسجام في الخطاب وقيامه على المعنى الواحد، وهي مزاعم ظلت سائدة في نظره زمناً طويلاً. ٭ الاختلاف: يشرح دريدا مفهوم الاختلاف في اطار كلامه عن الصوت والظاهرة في الفينومنولوجيا لدى هيدغرا، اعتمادا على الفارق الأساسي بين حالتين متعارضتين لكنهما في نفس الوقت متكاملتين، بحيث لا يمكن أن تستغني الواحدة منهما عن الاخرى. فالصوت باعتباره يمثل هوية الحضور الذاتي للمتكلم في حاجة الى الصمت اي الى نقيض الصوت، وهذا في حد ذاته اشارة الى ضرورة اللاذات، اي الى ضرورة الغياب لتأكيد الحضور الذاتي. وهكذا فالذات محتاجة الى اثبات حضورها. وقد نظر الى الصوت دائماً في الميتافيزيقا على انه تعبير خالص عن الحضور الكلي للذات من اجل ذاتها، بمعنى أن الصوت ليس في حاجة الى الصمت لاثبات حضوره، ولهذا السبب قيل بأن الصوت هو ذلك الدليل الاصلي الذي بالشرق الفينومنولوجي الدال على حضور الذات لذاتها. وانه يعبر عن بنية الدال الباطني المحض. وقد جاءت التفكيكية بمفهوم الاختلاف، كما رأينا بطلان هذا الزعم الميتافيزيقي حسب تصورها الخاص. ويمكن أن نلاحظ أن معظم مصطلحات التفكيكية تدور حول هذه النقطة المتعلقة بالثنائيات الضدية ومحاولة خلخلة فكرة التعارض القائم بينها من أجل اظهار زيفها، ان لم نقل الدعوة الى الغائها. ولقد اكدنا سابقا ان دريدا يرى ان ما يعتبر اصليا في الثنائيات الميتافيزيقية التفاضلية لا يمكن ان يمتلك اصليته الا بوجود ما هو نقيض له او خارج عنه او امتداد له. والشر مثلا نقيض الخير والكتابة امتداد الكلام، وحيث ان الطرفين الاساسيين الخير والكلام، لا يمكن تصور وجودهما بدون ما يقابلهما من قيم غير اصيلة، فإنه سيكون لدينا في الواقع افتقار متبادل لبعضهما البعض، «فمفهوم الشر لا يمكن أن يدرك إلا بوجود مفهوم الخير والعكس صحيح. وهذا يعني أن أحدهما ملوث، والآخر حسب ما يفهم من آراء دريدا. فالأصلي يبتعد عن أصليته في اتجاه ما هو فرعي، والفرع يبتعد عن فرعيته في اتجاه ما هو اصلي. وفي هذه الحالة يتحول الوجود المطلق الى وجود تاريخاني بالنسبة لكليهما، لأن الوجود هنا لم يعد وجوداً في الذات وللذات، بل وجوداً بالذات وبغير الذات، وهذا يتطلب الزمنية بالضرورة. وهنا يأتي مصطلح الاختلاف مجددا ليجسد ضرورة مغايرة الاصل عن اصليته باحالته الضرورية على مكمله او نقيضه، والعكس كما قلنا صحيح. ويذهب مترجم كتاب «الكتابة والاختلاف» الى ان هذا المصطلح ينبغي ان يرسم بناءً بين قوسين هكذا (الاخ «ت» لاف) محاكاة للمصطلح الفرنسي الذي كتبه دريدا بحرف a بدل e، ليفهم منه حسب تأويل المترجم دائما معنى «خلاف» الهوية موعدها مع ذاتها واحالتها الى الآخر باستمرار. إن موضوع العلاقة بين الذات والغيرية هو موضوع معاصر بدأ طرحه بشكل بارز مع ظهور معطيات التحليل النفسي، خاصة في ما يتعلق بانقسام الذات بين الانا والهو والانا الاعلى. وقد توسع الاهتمام به في إطار الدراسات التأويلية المعاصرة، وعالجه بول ريكور ودبرك من خلال مناقشة طبيعة العلاقة بين المفاهيم التالية: التطابق الذاتي والتعددية والهوية. ٭ مفهوم الأثر: يرتبط مفهوم الأثر الذي استعمله دريدا في سياق شرح طبيعة الاختلاف أيضاً، بما يتركه كل طرف من تلك الثنائيات المذكورة سلفاً في الطرف المقابل له من تغيير سالب وصالح في نفس الوقت. ويتحدث دريدا عن الأثر كما يلي: «إن كل عنصر يتأسس انطلاقاً من الأثر الذي تتركه فيه العناصر الأخرى في السلسلة او النسق». لكل هذا يعتبر مفهوم الأثر في الواقع مكملاً لمفهوم الاختلاف وشارحا لمضامينه. على أنه يمكن ربط العلاقة بين مفهوم الأثر ومصطلح التناص الذي لا شك ان دريدا كان يعتقد به دون أن يهتم باستعماله، مع أنه تحدث كثيراً عن العلاقات النصية وتشتت دلالات المفردات المستعملة في الكلام، وتأثير رصيدها الدلالي عبر التاريخ الذي يصعب إلغاء أثره في النصوص المكتوبة حديثا. ٭ استراتيجية التفكيك يعتقد دريدا أن التفكيك ينبغي أن يتبع استراتيجية خاصة في نقدها للثنائيات الميتافيزيقية، بأن نقيم في أفقها المنغلق محاولة لخلخلتها من الداخل، أما لماذا بالذات عليها أن تتمرس بداخل النصوص القائمة في بنيتها على الثنائيات، فلذلك تفاديا للنتائج الكارثية التي تترتب عن وجودها المفاجئ خارج المنظومات الثنائية الميتافيزيقية للمركزية الاوربية، ينبغي تدريجيا القيام بقلب قيم تلك الثنائيات وجعل الكتابة مثلاً تحتل موقع الكلام. والظاهر يحتل مكان الباطن. والدال مكان المدلول الخ، بمعنى جعل المركزي هامشيا والهامشي مركزيا. والاشتغال داخل النسق النصي بهذه الاستراتيجية «المفروضة» ملحوظ جدا في اقتحام دريدا رسالة روسو في أصل اللغات، بحيث يضع شبه التباس بين خطاب روسو وخطاب دريدا، لأن دريدا يتمظهر بأنه يوافق على كل أفكار روسو، لكنه فجأة يتبين للقارئ أنه أسس منذ البداية لهدمها من الداخل.