غداة اليوم التالي لاحتجاج أهالي بري على العطش الذي نشّف حلوقهم وجفّف عروقهم وجلودهم و»خلّى ريحتهم طير طير» من عدم الاستحمام، اجتمع بعض «شيفات» جمع شيف - ولاية الخرطوم لإعداد طبخة دسمة يقدّمونها للناس ليتهافتوا على تناولها بنهم وشراهة، تنسيهم مأساتهم وتمتص غضبتهم على سلطات الولاية، يتكرّعوا بعدها ويتدشوا «عاااااع»، حامدين وشاكرين للولاية حرصها على رعاياها واهتمامها بمشاكلهم وسهرها ليس على راحتهم فقط، بل ولرصد أعداء الشعب من المندسين والخونة والمخربين الذين يعبثون بالأملاك العامة ويعرضون حياة الجماهير للخطر، فتنال الولاية رضاء الجماهير وتتعالى هتافاتهم بحياتها من جهة وتستمطر غضبتهم المضرية على الطابور الخامس فيشتعلون حنقاً عليه مطالبين بالقصاص، وكان أن خرج هؤلاء الطهاة غير المهرة، على الرأي العام، بطبخة قديمة وملاح بايت لا جديد فيه غير آنيته الجديدة، اسمه بلوفة بالبيض، على وزن بلوبيف بالبيض، ولكن لسوء حظ الولاية لم تستسغ الذائقة العامة هذه الطبخة، فلفظتها من أول وهلة، ولم تستطع ابتلاعها، وللناس ألف حق، فحتى أشعب الأكول لا يمكنه إزدراد بلوفة بالبيض، والولاية ما ليها حق أن تقدم للناس طبخة يحتاج تفتيتها للقيمات يسهل ابتلاعها الى مرزبة وسندالة، كان يمكنها أن تكون أكثر معقولية ومقبولية لو قدمت لهم مثلاً عصيدة بالايسكريم، أو البلوفة نفسها ولكن مع مادة صاهرة للحديد تساعد الناس على هضمها... قال الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال «نحن في بلد إذا غضب فيها الرجال قال بعضهم لبعض يا إبن الكلب»، ونزيد «ونحن أيضا في بلد إذا غضب فيها عنقالتها، قال بعضهم لبعض يا بلف» وها هي الولاية تقول لجماهير الشعب السوداني الفاضل يا بلوفة، صحيح ان الولاية لم تشتمنا هكذا بصريح العبارة، ولكنها ما كانت لتجرؤ فتعزو لنا سبب الضنك الذي كابده أهالي بري جراء انقطاع المياه عن دورهم أياماً وليالٍ، إلى البلوفة التي قالت إن بعض الحاقدين قد تعمدوا قفلها لتحجب الماء عن أهالي بري، هؤلاء حاقدون مستجدون في سنة أولى حقد، وإلا لماذا يستهدفون هؤلاء الغلابى من سكان هذا الحي الشعبي، لماذا لا يغلقون «البلف» المغذي للقصر الجمهوري، أو ذاك الذي يمد رئاسة جهاز الأمن أو غيرها من الاماكن والمباني والمقار السلطوية، وبمناسبة البلوفة هذه، أذكر أن السلطات قد احتاجت ذات مرة لمعرفة موقع أحد البلوفة في شارع الجامعة، وقضى عمالها ومهندسوها أياماً وهم ينقبون ويحفرون ويبحثون دون جدوى الى أن سمع بأمرهم مهندس قديم عاصر زمن الانجليز فهداهم إليه، ولكي لا نترك ثغرة لمتحجج ينفذ منها ليغالطنا، نسارع فنقول حتى لو كان هدف هؤلاء المخربين هو تحريك الغضب داخل النفوس لتتحرك بعد ذلك الأرجل الى الشوارع في تظاهرات صاخبة، فان بعض مربعات بري ليست هي المكان المناسب لقدح الزناد، فالمكان الأنسب بلا منازع هو الجامعات وداخليات الطلاب والطالبات وقود كل الثورات والقادة الفاعلين لأي تظاهرات، ولو كان هؤلاء المخربون المستجدون قد قفلوا بلوفة الجامعات والداخليات لكان ذلك أجدى لحقدهم وأنفع لتآمرهم، ولكن لأن الأمر في جوهره ليس أمر بلوفة مقفولة لذا لم تجد الولاية مناصاً غير أن «تبلفنا» بهذه الحكاية التي لن تنطلي إلا على العقول المقفولة، ومن قال لك يا «قفل» فقد شتمك، الحكاية لمن القى السمع وهو شهيد مؤصلة ومفصلة ومجازة شرعاً، فكل أزمة وزنقة لابد أن وراءها «بلف»، وإن كانت لي من نصيحة أسديها للمواطنين فهي أن على كل واحد أن «ياخد بالو من بلفو»، ما في شيء مضمون اليومين ديل، ممكن تطلع من البيت ترجع تلقاهو من غير بلف، أو كما قال عادل إمام وهو يمحضنا النصح المخلص بالمحافظة على اللغاليغ...