عندما يريد احد شيوخ البقارة ان يوحي لمستمعه بأنه سيستقبل المرحلة الجديدة بما تحتاجه من الصراحة والجدية والحسم، فإنه فى الغالب يستخدم كافة انواع المؤثرات لاجتذاب اكبر قدر من إهتمام المخاطب مثل ما يعرف منها فى عالم اليوم بلغة الجسد (the body language) او ان يحشد ما يستطيع من موسيقى تصويرية ،فيقف ان كان جالسا او يصفق بيديه طالبا الانصات الى حديثه اويرفع كم جلابيته ثم يقول :(يا ناس هوى الغش وموية الرش ما بتقوم القش والنار كن بيغطوها بالعويش ما بتموت )(العويش هو العشب الجاف)(النئ بيومه والنجيض بيومه النار بتقرعها الحريقة ) وغيرها من المترادفات ثم يمضى فى طرح وجهة نظره التى غالبا ما تحمل قرارا او مقترحا . اليوم ربما يلزمنا ان نستعير هذا الاستهلال لنخاطب به المرحلة الجديدة التى افرزتها انتخابات جنوب كردفان. معلوم ان الحرب الطويلة التى كان جزء من اراضى الولاية مسرحا لها قد كلفت الناس الكثير من الخسائر ,آلاف القتلى والمعوقين والمشردين والنازحين فى ولايات السودان المختلفة ونال اهلنا النوبة بالطبع الضرر الاكبر حيث كان المتمردون الذين يقاتلون الحكومة محسوبين عليهم، بل ان المقاتلين فى معارك الحركة الشعبية فى الجنوب هم كذلك ابناؤهم، وكثيرا جدا من ابنائهم يقاتلون فى صف الحكومة من خلال الدفاع الشعبى والقوات النظامية وبين هؤلاء واؤلئك سقط كثير من الابرياء ، كما تم تدمير البنية التحتية وأصاب الولاية ضرر كبير فى مرافقها الصحية والتعليمية وكافة المرافق الخدمية الاخرى، وأغلقت طرق التجارة وتبادل المنافع وتوقفت مشاريع الزراعة الالية ونهبت الماشية التى كانت دائما هدفا سهلا ومصدرا لتمويل الحركة وتحولت مجموعات كبيرة من الرعاة الى فقراء يسكنون اطراف المدن او يمارسون حرفا لا يجيدونها مثل الزراعة فى المناطق الهامشية او قطع الاشجار والاتجار بها ، كثير جدا من الضرر لحق بالولاية وذبلت الحياة المشرقة التى كانت تميز مدن الولاية ، عندما تم إنهاء الحرب بتوقيع إتفاقية السلام الشامل التى اختصت الولاية ببروتوكول سلام جنوب كردفان الذى اسس لمرحلة جديدة تم فيها تقسيم السلطة فى الولاية بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطنى بنسبة45%الى 55%على التوالى مع تمثيل محدود للحركة فى الحكومة المركزية وتمثيل معدوم فى حكومة الجنوب. تولى اللواء اسماعيل خميس جلاب حكم الولاية كأول حاكم بعد الاتفاقية وكان الامل ان يتم تعويض الولاية ما فقدته عن طريق مشروعات تنموية طموحة غيران الشريكين بددا الوقت دون طائل فى صراعات لا معنى لها وتتحمل الحركة الشعبية الاثم الاكبر فى تبديد زمن حكومة اللواء جلاب فى هذه الصراعات وتذكرون كيف تم تأخير تكوين المجلس التشريعى وقرار الدستور الولائى بل حتى ميزانية الحكومة وكيف تم تأخير إنفاذ الترتيبات الامنية إذ ظلت هناك مناطق خاصة بالحركة لا يدخلها حتى نائب الوالى ناهيك عن الاخرين، واصبحت للولاية حكومتان ،استمر هذا الحال حتى انتهت حكومة جلاب ودكتور عيسى وخلفهما عمر سليمان ودانيال كودى فخفت هذه المشاكسات لكنها لم تنته واستطاعت الحكومة ان تنجز الكثير فيما يتعلق بهيكلة الجهاز التنفيذى وإجازة الخطط التنموية والشروع فى تنفيذ اكبر محاولة لاعادة بناء االجهاز التنفيذى الولائى، غير ان الحركة ظلت تنسى كون انها حكومة وليست حركة فاتخذت قرارا بمقاطعة الاحصاء السكانى وترتب على ذلك ظهور نتيجة مشوهة غير حقيقية ،وعندما جاء ت حكومة مولانا احمد هرون وعبد العزيز ادم الحلو بذل احمد هرون جهدا كبيرا لتقوية الثقة وكان كريما جدا يوافق الحلو معظم الاحوال حتى اثار غضب بعض اعضاء حزبه واثار حفيظتهم وعندما هددت الحركة بمقاطعة الانتخابات وعادت لتوافق على انتخابات المجلس الوطنى وتؤجل انتخابات المجلس التشريعى والوالى وتم التشاور على جميع المراحل وتم تجاوز مشكلة السجل مرت الامور حتى وصلت مرحلة الحملة الانتخابية التى افترق فيها الشريكان وواجه كل منهما صاحبه فى العرك الانتخابى ، امتازت الحملة الانتخابية بالقوة والشراسة حتى اشفق الكثيرون من حدوث خروقات امنية حشد كل طرف كافة امكانياته واستخدم كل كادره فى الحملة واستعان بآخرين من خارج الولاية، واستمرت الحركة فى مراقبة كل مراحل العملية الانتخابية حتى انتهت العملية بسلام وتم الفرز فى مراكز الاقتراع ووقع عليه المناديب لكن فاجأت الحركة الجميع وقاطعت اخر مراحل الفرز والرصد وإستخراج النتيجة ورفضت الاعتراف بالنتيجة المعلنة مما ينذر بدخول الولاية فى ازمة جديدة. لقد حسبت الحركة حسابات خاطئة جعلتها تظن انها ستنال ثقة الاغلبية المطلقة فى الولاية ونست ان ظروفا كثيرة قد تغيرت منذ اعلان انفصال الجنوب فالحركة الشعبية الام إنكفأت على نفسها واختارت الإنفصال وانسحبت جنوبا تاركة الحركة الشعبية فى الشمال تواجه مصيرها المجهول، وما عادت اطروحات السودان الجديد قابلة للتسويق فى مجتمع اصبحت الاغلبية القصوى من سكانه مسلمين يطالبون بحكم اسلامى ويرفضون العلمانية كما ان إعتقال الحركة الشعبية فى الجنوب للقائد تلفون كوكو ابو جلحة احد القادة المؤسسين للحركة الشعبية بجبال النوبة وسجنه اثار غضب الكثيرين من انصاره للدرجة التى جعلتهم يقدمونه كمرشح مستقل وهو فى السجن ،انفصال الجنوب كذلك ترك الحركة الشعبية فى جبال النوبة فى حالة نفسية سيئة اظهرتها الانسلاخات المتكررة لبعض قيادات الحركة الشعبية وانضمامهم الى المؤتمر الوطنى مثل وزير التربية فى جنوب كردفان الذى انضم مع مجموعة من انصاره يوم تدشين المؤتمر الوطنى لحملته الانتخابية في الدلنج وكذلك انضمام كثيرين فى المنطقة الشرقية والمنطقة الغربية 0 راقبت الحركة الشعبية كل مراحل الانتخابات ووافقت عليها وكان لها مناديب فى جميع مراكز الاقتراع يراقبون بالنهار ويشاركون فى الحراسة ليلا فما كانت هناك شبهة تزوير الا اللهم فى بعض مراكز الحركة التى تم فيها طرد المراقبين كما حدث فى دائرة الدلنجالغربية ،كنت اتمنى ان تتحلى الحركة بالمسؤولية وتقبل نتيجة الانتخابات التى راقبتها بدقة ولا تلتفت الى تحريض المحرضين من احزاب المعارضة الذين يطالبون المؤتمر الوطني بالتنازل عن جنوب كردفان للحركة كأربون لحسن الجوار مع الجنوب كما ذكر القيادى فى الاتحادى الاصل على السيد(جريدة الصحافة16/5/2011ص 3). جنوب كردفان ليست ملك المؤتمر الوطنى ليتنازل عنها للحركة الشعبية وإذا ارادت الحركة ان تفوز عليها ان تغير سلوكها وخطابها وتحترم إرادة المواطن التى ظهرت من خلال هذه الانتخابات ،وإذا رفضت المشاركة فى الحكم واختارت المعارضة فذاك هو قرار يخصها ونحن نؤيده فالمواطن فى حاجة الى معارضة مسؤولة تكشف مواضع القصور وتراقب الاداء التنفيذى والتشريعى للحكومة، وإذا كانت الاحزاب مقتنعة ببرنامج الحركة فلتتحالف معها وتهزم المؤتمر الوطنى فى اقرب انتخابات قادمة، اما ان يستغل ذلك لادخالنا فى دوامة حرب جديدة نحن وقودها فهذا ما نرفضه وكما قال الامام على بن ابى طالب اسرعهم الى الفتنة اولهم فرارا يوم الزحف، لن يحارب مثيرو الفتن بل ينتظرون ان تدور حرب بالوكالة نيابة عنهم وذلك لن يحدث ان شاء الله. اما بالنسبة للمؤتمر الوطنى فالنتيجة التى تحصل عليها فى الانتخابات تحتاج الى مراجعة اداء الحزب وخطابه وقياداته التى ينبغى ان تكون قدوة فى كل شيئ، ويبدو ان حالة الزهو التى تقمصت الكثيرين وجعلتهم يظنون ان الناس سيتنازلون عن محاسبتهم على بعض اخطائهم جعلتهم يخطئون التقدير ونسوا ان صناديق الاقتراع هى احدى وسائل المحاسبة اما ضعف الدافعية التى جعلت التصويت فى بعض مناطق النفوذ اقل من 50% نقطة تحتاج لمراجعة فبعضها ناتج لسوء نظام التصويت الذى يتجاهل اصحاب الظروف الخاصة مثل الرحل لماذا لا تخصص دوائر للرحل او تحديد مراكز اقتراع متحركة تراعى ظرفهم؟ ولاية جنوب كردفان كفاها ماذاقت من ويلات الحرب وهى الان مليئة باليتامى والارامل والمعوقين كلهم ضحايا حرب كان ابناؤها مدفوعين لها دفعا ويريدون ان ينعموا الان بولاية امنة متعايشة تمثل وطنا لكل ابنائها دون فرز، فهم محتاجون لبرنامج يعالج افرازات الحملة الانتخابية واثرها الضار على النسيج الاجتماعى ، محتاجون لفتح جميع مناطق الولاية المغلقة وتنميتها لا غلقها وعزلها عن المؤثرات المختلفة، واخيرا نطالب الوالى المنتخب بأن يبدأ برنامجه فى المرحلة الجديدة بتوفيق اوضاع ابناء الولاية الموجودين بدولة الجنوب وعلى رأسهم اللواء تلفون كوكو ابو جلحة المسجون الان، والذى خاض معركة غير متكافئة للمنافسة فى منصب الوالى، بل على الحكومة القومية ان تتبنى اطلاق سراحه تطبيقا لقرار المحكمة الدستورية التى ابطلت شرعية اعتقاله اصلا، باعتبار ان الجيش الشعبى ليس جيشا نظاميا وتلفون بخوضه الانتخابات مستقلا يكون قد حدد علاقته بالحركة الشعبية وهو كفاءة لابد من الاستفادة منها، ومواطن سوداني له حقوق.