«يبدوا الغير علي ذاتم يقسموا اللقمة بيناتم حتى ان كان مصيرم جوع، ديل اهلي البقيف في الدارا وسط الدارا واتنبر واقول للدنيا كل الدنيا ديل اهلي، ديل قبيلتي، لما ادور افصل للبدور فصلي، عرب ممزوجة بدم الزنوج الحارة ديل أهلي» أبيات من الشعر نظمها الرائع اسماعيل حسن قبل عقود مضت وهو يزهو فخرا واعجابا بسودانيته، مجسدا عبر القوافي قيم وصفات هذا الشعب الكريم المضياف الذي لم تنل صروف الاقدار ونائبات الدهر من عزه وموروثات الجدود الذين غرسوا في الدواخل صفات الكرم والشجاعة والتسامح والتعايش، ورغم مضي سنوات طوال على قصيدة اسماعيل حسن التي عبرت عن واقع زمانه، الا أن الإنسان السوداني لم يتغير وظل ممسكا بكل ما هو جميل، رافضا الانحناء لرياح العولمة ومتغيرات السياسة التي شطرت وطن المليون ميل الي نصفين، وباعدت جغرافيا وإثنيا بين مكونات الوطن العرقية المختلفة، بيد أن السياسة وبكل افرازاتها السالبة وتيارتها القوية فشلت في فصل الوجدان المشترك للمجتمع السوداني الذي لم يطرأ تغيير على أفراده بالحضر والارياف، وصباح أمس تجسدت مفردات الراحل بجسده والمقيم بما نظمه من درر «اسماعيل حسن» في طريق التحدي، فعند الثامنة صباحاً تعطلت العربة «حافلة» المقلة لأسرة تقيم بالعاصمة وتنحدر أصولها من قرية دار السلام «شمال سنار» بالقرب من مجمع قرى بانقا القبة «جنوبشندي»، ومن أجل اصلاح الإطارات ذهب عميد الاسرة عمر أحمد محمد «مويه» ومعه شباب بحثا عن «بنشر» تاركين عشرين من النساء والاطفال انتظارا بالقرب من الحافلة، وقد يكون هذا أمرا طبيعيا يحدث كثيرا في طرق المرور السريع وحتي داخل المدن، بيد ان أهل قرية التريسيد التابعة لمجمع قرى بانقا القبة لم يعتبروا الأمر اعتياديا، فذهب نحو المنتظرين بالقرب من الحافلة سوداني أصيل يدعي عثمان أحمد عثمان من مواطني القرية طالبا وحالفا «بالثلاثة» ان يذهب الجميع الى منزله، وتحت الحاحه الشديد لم يجد ركاب الحافلة بداً سوى التوجه معه لمجاملته وشرب أكواب من الشاي كما توقعوا، وبعد دخولهم منزله استدعى زوجته عدوية عوض السيد، فتشاورا سريعا لتأتي خطوتهما اسرع مما توقع ضيوفهم، حيث قام عثمان وهو ينحدر من ديار الشايقية باختيار افضل خرافه واعمل فيه سكينه ذبحا، وقبل أن يكمل عمليات تجهيز الخروف كان كل أهل القرية رجالا ونساءً حضوراً وترحيباً بالضيوف، ليجد أهل سنار انفسهم محاطين وغارقين في كرم جعل الدموع تتسلل من العيون عاجزه عن التعبير عما تجوش به الدواخل من تقدير واعتزاز وشكر وفخر، واختصرت مني علي عبد الرحمن «أم محمد» الموقف بجملة «يا هو دا السودان البنعرفو»، وقال يسري محمد إبراهيم: إن الكرم الذي وجدوه من اهل قرية التريسيد، أكد لهم أن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيظل الخير فيها الى يوم الدين، وبالمقابل يرى صاحب المنزل عثمان احمد عثمان أن ما قدمه أهل القرية واجب، رافضا الشكر عليه، وبعد أن قضى الجميع لحظات من الكرم والتعارف والاحاديث الجانبية جاء الوداع مفعما بالمشاعر النابعة من الدواخل، ليغادر السناريون ولسانهم يلهج شكراً وإعجابا، فيما انصرف أهل التريسيد الكرماء معتبرين ما قدموه واجباً تفرضه الموروثات والقيم السودانية .