آخر عهدي بِك مكالمةٌ هاتفيةٌ طويلة آخر ليل الأثنين، التاسع من مايو الجاري. كُنتُ متأهّبا لمغادرة البلاد في رحلة خارجية، فيما كُنتَ متأهّبا لمغادرة الخرطوم إلى الدمازين، حاضرة ولاية النيل الأزرق، في رحلة عمل. و علمتُ، فيما علمتُ، نيتك السفر إلى قريتكم، أب سعد، بولاية شمال كُردفان، لتدشين فصول جديدة في مدرستها شيدها، بالتعاضد، مواطنو القرية و أبناؤها في الخرطوم، و المنظّمة السُودانية لتطوير التعليم التي أسّستها، و رفاقٍ لك، بعد عودتك من بعثةٍ دراسية إلى ماليزيا قبل بضع سنين، تأهّلت خلالها، بالإضافة إلى كُسوب من الخير أُخرى، بنيل شهادة الدكتوراه في بعض ضُروب اللغة. و علمتُ، إلى ذلك، أنّكم، من ثم، ستغادِرون عند نهاية الشهر الجاري إلى عاصمة أُوربيّة، لإلقاء كلمة حول الأحوال السُودانية في محفل دولي سينتظم في أعقاب الشهر الذي لم ترَ، و لن ترَى، خواتيمه بيننا! و أنّك، حادثتني على استحياء، عن حاجتك، و أسرتك الصغيرة، إلى رحلةِ استجمام و هُدوء بال، تغسل فيها رهق الدُماغ و البدن، توافقنا أن تكون في وقتٍ ما عند منتصف يونيو. و بين هذه المواقيت أعمالٌ و أعمال. هكذا أنت حيويةٌ لا تعرف الخمول، رُوحا و ذِهنَا و بدنا. أنت، محمّد الفاتح بريمة أحمد، المولود في العام 1966، جئت، مثل سوادٍ غالب من أمثالك، من طرفٍ قصي، و مكان يوشك أن يكون مجهولا للأغلبية من النُخب من أصدقائك و زملائك، و «سياد خيرك». جئتَ من دار الريح التي كنت أوّل من وصفها بكونها «منطقة ظل»؛ لا يصل إليها إلا من يقصدها، إذ لا طريقٌ برّي عابر، و لا خط للسكة الحديد، و لا شبكة للكُهرباء و لا شبكات مياه شرب نظيفة في متناول العائلة، و لا . . . و لا!! لم تكن من منسوبي مجتمع حفّي بتعليم أبنائه و بناته، من أطفال زمانك. و لكن، مُنذُئذ، كتبت، كمن ينقُش على صخرٍ، سيرةً من العصامية، لا بنبوغٍ و ذهنٍ وقادٍ و كفى، بل بصمود و مثابرة دافعت بها ضغوط الفقر و الحاجة و العادة التي كانت تُودع، أبناء جيلك من بني تلك الديار، خارج أبواب الدرس، بحثا عن كسب الرزق في أزقّة اقتصاد الهامش. و حيثُ نجوتَ أنت، ما زالت أفواجٌ و أفواجٌ منهم تحجُّ إلى الكعبة ذاتها، تُعيدُ إنتاج عصرٍ حجري تاليا لعصرٍ حجري! تسللتَ، أنت محمّد الفاتح بريمة، من بين يدي قدَر محقّق كان كفيلا أن يُلقي بِك، في براثن تاريخ مُختلفٍ، مفتوحٍ على احتمالات غير قليلة، غالبها غير صالح. عبرتَ مراحل الدراسة العامّة، مرحلة . . مرحلة، و أنت تكسب في إجازة الصيف في الخرطوم، ما يقيم الأوَد، و يعين على سداد فاتورة الكِساء، و مصاريف الجيب، و اكتشاف المدينة ببهارجها و هرجلتها و صخبها الفتّان. و تخطيتَ، من بعد، حاجزا عالي السقف، بالتأهّل للالتحاق بجامعة الخرطوم، التي أوشكت، عند زمان إلتحاقك بها، أن تَضحي امتيازا، حصريا، للقادرين على شراء النجاح وفقا لشُروط اقتصادية اجتماعية ذات كُلفة باهظة. و في جامعة الخرطوم، زهوتَ فارساً، و أنت تتقدّم صفّ رفاقك في مقاعد الدرس، تتحدّث الإنجليزية كما لو أرضعتكَ لها أُمك المكلومة، أحسن الله عزاءها و ثبّت بالإيمان و اليقين قلبها. كانت مساجد جامعة الخُرطوم حفّة بِك. و كُنت حاضرا تحاورُ، بتعمّق و سعة أفق و عقل مفتوح، في منتديات الفكر و اللُغة و الآداب. و تلمّست طريقا إلى الكتابة الصحافية فتميّزت، بكسب «ضُراعك». و إزاء تفوقّك لم يكُن في وُسع جامعة الخرطوم، بتقاليدها و خُلِقِها، أن تزِيحك على جانب الطريق، لتفسح إلى من هُو دونك بحساب التأهيل، مكانا في قائمة اساتذتها. و ليس طويلا بعد التحاقك بها أوفدتك جامعة الخرطوم، التي منحتك درجة الماجستير في اللغة الإنجليزية، إلى الجامعة الإسلامية في ماليزيا، حيث حصلتَ على درجة ماجستير ثانية في تعليم اللغة الإنجليزية للناطقين بغيرها. و من بعد إلى جامعة الملايو، ذات الصيت العلمي و البحثي الحَسَن، لتحصل على درجة الدكتوراه في السياسات و التخطيط اللُغوي. و من واقع أنّك مِمّن لا يعرفون خُمُول الرُوح و الذهن و البَدَن، ما كانت أيّام كوالا لمبور، بالنسبة إليك أيّاما للدرس و الاستجمام، حصريّا. كنتَ، بقُدراتك المُختبرة في اللغة و الإعلام و التعاطي مع الكمبيوتر، كنتَ تعاون، في الوقت ذاته، العاملين في سفارة بلادك بما يمكّن من تحسين الأداء الدبلوماسي و ترفيع معدّلات الأداء. و كنت، مع ذلك، تربويّا تتولّى مسؤوليّات جِسام، و مترجماً، عند اللزوم، و ناشطا اجتماعيا و سياسيا، لا تعرف التثاؤب. و ما أن مُنحتَ اعترافا رسميا بتأهيلك دكتورا في اللغة الإنجليزية هرعتَ عائدا إلى بلادك، السُودان. عُدتَ فتىً بهي الطلعة، واسعَ المعرفة، ممتلئاً عزيمة و طُمُوحاً. عُدتَ، و عاد الحبيب الحبيبُ المنتظر، يؤرّقه تخلّفٌ مُقيم، يمينا و يسارا، من الأمام و إلى الخلف و بين اليدين. ساحات السياسة، بما تعيشُه من غير قليل من خَرَقٍ و خواء و تبطّل و قلّة حيلة، أم ساحات التعليم و المعرفة بما يكتنفهما من مَحق، أم ساحات العمل الطوعي قصير القامة و القائمة تطول . . السماءُ سقفُها! إنخرطتَ، بلا تردّد، ناشطا في النادي السياسي، فكنتَ كصالحَ في ثمُود. بيدَ أنّ رُوحك الوثّابة، و نهجّك في الإيجابية و الإسهام البنّاء، لم تسُدّا عليك سبيل التفاعل و المشاركة لصالح مِعمار لمُستقبل للبلاد يخطُو بها المَيلَ المُستحق خارج مربّع التخلّف. و لمّا كان المَحَل الذي يلِدُ تعليما تُنهكه الأنيميا، لِجهة المواكبة و المقُدرات التطبيقية، ممّا يؤرّقك، و أنت المهنّي المتخصّص في التعليم، إهتديتَ إلى تأسيس المنظّمة السُودانية لتطوير التعليم، أنت و رفاقٌ لك، كنتَ إمَامَهم. و مع متلازمة فُُقدان المناعة التي تُوهِنُ جسد العمل الطوعي و روحه، فالمنظّمة السُودانية للتعليم، التي نسأل الله أن يهبَها الإستدامة و الفاعلية بعد رحيل الأبّ المؤسّس، تبقى نموذجا للإستهداء، من أجل عَمَلٍ طوعي وطني خادما لرسالته. و منذُ نحو عام، و للأسف لعامٍ واحدٍ فقط، إنخرطنا، شخصك السَمح و شخصي الضعيف، في رفقةٍ ثريّةٍ مُنتجة. كنتُ قد استدعتني جامعة الخُرطوم لأعملَ مُديرا لمعهد أبحاث السلام فقبلت. و لما استبنتُ ألا قِبَل لي بما أنا بصدَدِهِ بدُون مساعدٍ من طرازٍ فريد، ما أخطأت التقدير حين عرضتُ عليك الإلتحاق بالمعهد نائبا للمُدير، فما خذلتني. و ما خاب فِيكَ ظنّي، أيا «ر فيقي المتمّم كيفِي . . يا مطمُورة عشاي و ضَيفي». عامٌ من الأحلام و الأفكار و الأعمال كان دهرا طويلا من النشاطات و المشروعات و البرامج و الأشواق. معهدُ أبحاث السلام ساحةُ عمل متواضعةُ الحجم و الأبعاد. كُنّا « نقع و نقوم» . . نعم، بيدَ أنّ الدفءَ الذي كنتَ، و فريق العمل الصغير من الشباب و الشابات، تُحيطون به المهام و الأعمال، كان مُدهشاً. كان المعهدُ خلية نحل، ما كانت طاقاتنا، طاقات كلِّ الفريق، كافية للوفاء بمتطلّبات العطاء و الإنجاز ممّا كُنا، نفعل و نخطّط أن نفعل. في ميدانٍ آخر، كُنّا، و بلا صَخَبٍ، نُخطّط أن ندشّن مبادرة أهلية لتنمية شرق كُردفان الكُبرى، بما يجنبها الإستمرار في سداد استحقاقات واقعها المتخلّف ماديّا و يحصّنها ضد الإنفجارات الغاضبة التي لا تلد إلا الرماد! هذه المُبادرةُ هي ممّا يلزم أهلك في محلية أم رُوابة الكُبرى أن يعرفوا عنك بعد أن مضيت. لقد مضت التحضيرات لبداية العمل الأوّلي مسافةً طويلة، و كان مُنتظرا أن تضعَ، أنت، اللمسات الأخيرة على خطّة المسح الأوّلي بما يتيح التعرّف على ملامح المبادرة تنمويا و خِدميا و غير هذا و ذلك. عهدُنا لكَ أن نمضي بما بدأنا إلى نهاياتٍ من الإنجازِ و النجاح. الموتُ، بإرادة الله، لا ينتخبُ أصفياءه خبطَ عشواء. ما كُنتَ يا رفيقي الحبيب، ما رأيتُ فيك، و ما رأيتُ مِنْك، ما كُنت ممّن يهابُ الموتَ. كنتَ تسعى إليه من حيثُ دريتَ أو لم تَدْرِ. كنتَ يا رفيقي عجُولا إلى فعل الخيرات. كُنتَ عجُولا إلى لقاء الله. اللهُم إنّ محمّد الفاتح بريمة عبدُك، و ابنُ عبدك، و ابن أمتِك. اللهم إن كان مُحسنا فزد في إحسانه، و إن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته. اللهم لا تحرمنا أجرَه، و لا تفتنّا بعده. آمين. * محمّد الفاتح بريمة من مواليد 1966، أب سعد، شمال كُردفان. تلقى تعليمه العام في كُردفان، و الجامعي و فوق الجامعي في جامعات الخرطوم، و الجامعة الإسلامية و جامعة الملايو في ماليزيا، و جامعة لندن، كينقز كوليدج. عمل أستاذا للغة الإنجليزية في كلية الآداب جامعة الخرطوم، و رئيسا لقسم اللُغة الإنجليزية، و ختم حياته المهنيّة نائبا لمُدير معهد أبحاث السلام، جامعة الخرطوم. ترك الفقيد من ورائه أرملته الأستاذة تسنيم، و ابنته بسمة.