في البدء يسعدني ان أهتبل هذه السانحة لأشيد بالكاتب الصحفي الاستاذ/ المتوكل محمد موسى لإعماله قلمه الجرئ للغوص عميقا في قيعان القرون واعماقها من اجل التنقيب عن آثار امم سادت ثم بادت، ونبش صفحات تاريخ دارفور المنسية والمطمورة في ركام دهاليز عالم النسيان، وذلك بتعرضه للخلفية التاريخية لماضي دارفور السياسي والاجتماعي في صحيفتكم الغراء تحت عنوان «ممالك في تاريخ دارفور» بالتواريخ 2011/3/20م، العدد (6345) - 2011/3/27م، العدد (6325) والذي تناول من خلاله تاريخ الممالك والسلطنات التي فرضت نفوذها على المسرح السياسي بدارفور عبر القرون، ثم ما لبثت ان إضمحلت وأفل نجمها وأصبحت أثراً بعد عين، لا يرد ولا يجري ذكرها إلا لماما على ألسنة بعض المهتمين من اهل التاريخ والباحثين في شؤون دارفور، وتأتي على رأس تلك الممالك مملكة الداجو ثم التنجر والفور.. اما هيمنة الداجو وتسيدهم للمسرح السياسي بدارفور فقد اجمع أغلب الذين ارخوا لهم بأن مملكتهم بدارفور بدأت في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي، واستمرت حتى نهاية القرن الرابع عشر وهي اول سلطنة دون لها التاريخ بتلك المنطقة، وكانت تعرف لدى المؤرخين الاجانب بسلطنة ما بين الانهار.. ولعلي قصدت بكتابتي لهذا المقال كسر حاجز الصمت والغموض الذي ظل يلف ماضي هذه المملكة، علاوة على اثراء ما ورد في مقال الاستاذ/ المتوكل عن تاريخها،وذلك من اجل اكمال بعض الحلقات المفقودة من ذاك التاريخ تعميما للفائدة بالتمهيد لطريق يلج من خلاله طلاب العلم والمعرفة والباحثون عن اسرار نظم الحكم والادارة في تاريخ المملكة المنسية والممحية من الذاكرة الجمعية للشعب السوداني. فإذا ما امعناالنظر في فلسفة ونظام الحكم القائم في مجتمع الداجو بغرب كردفان في محافظة لقاوة حتى الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن المنصرم اي قبل صدور قانون الحكم المحلي لعام 1951م، (تم بموجبه دمج ادارة الداجو في ادارة المسيرية الزرق) لوجدنا ان النظام الاداري السائد آنذاك عند سلطنات الداجو الصغرى بلقاوة (سلطنة الدار كبيرا، سلطنة ورينا وسلطنة ارسليجي) هو نفس النظام الاداري الذي ساد في سلطنة الداجو الكبرى بدارفور على الارجح، لأن مجموعة الداجو الذين هاجروا شرقا بعد انهيار السلطنة الكبرى في عهد السلطان عمر كسفروك (كسيفروقي) صاحب قصة التيتل المشهورة في التراث الشعبي بدارفور، استطاعوا بما حملوه معهم من حضارة وتراث في مجال السلطة والحكم بدارفور ان يؤسسوا لهم مملكة صغرى اخرى بمنطقة المجلد الحالية، ولا زالت آثارها شاخصة للعيان في منطقة عتمور الدندور شرق المجلد. وكان آخر حكامها السلطان تالو دينقا الذي انهارت مملكته على ايدي قبائل البقارة (المسيرية، الحوازمة، وأولاد حميد) في عام 1770م، (كتاب اصول البقارة والدينكا ، قضية ابيي للكاتب/ احمد عبداله آدم)، ونفس الشئ ، فعلته المجموعة التي هاجرت غربا بعد انهيار مملكة الداجو الكبرى بدارفور حيث استطاعت ان تقيم سلطنة كبرى لهم بدار سلا واعاصمتها قوز بيضة بشرق تشاد (سلطنة وداي سابقا)، واصبحوا الآن جزءا من دولة تشاد (كتاب تاريخ دارفور عبر العصور للكاتب/ احمد عبدالقادر أباب).. اما قوم السلطان تالو دينقا الوارد ذكره آنفا فقد هاجروا باتجاه الشرق بعد انهيار المملكة وتوغلوا حتى بلغوا منطقة لقاوة الحالية والتي ينطقها الداجو (لاوة)، وتعني بلغتهم المنطقة الصالحة للسكن، ويرجع فضل تأسيسها لهم، حيث أقاموا فيها ثلاث سلطنات صغيرة المذكورة آنفا والتي ضعفت وتضعضعت عبر القرون لتتحول في عام 1994م، الى إمارة للداجو بلقاوة بعد اضافة ثلاث عموديات جديدة لها هي (نكري، والتمانيك ، والتروج).. اما نظام الحكم والإدارة في مجتمع الداجو القديم كما اشرنا آنفا فتتمثل فلسفتها في تقسيم المجتمع الى مجموعة من البيوتات او خشم بيوت فعلى سبيل المثال نجد (بيت اليايوقي، اللوقي، نيالاكي ، تقنقي، شمورتكي).. وبما أن كل بيت من تلك البيوت يمثل حلقة مهمة من الحلقات الاساسية لنسق مجتمع الداجو القديم، إلا ان بعضها يمثل ايضا دور حجر الزاوية بالنسبة لفلسفة الحكم ودعامتها، فمثلا نجد ان بيت (اللوقي) كما جرى العرف ودار التقليد هو البيت الذي ينحدر منه السلاطين والمفرخ لهم على الدوام.. اما اعتلاء عرش السلطة والتربع بين اروقته الوثيرة فغالبا ما يتم عن طريق الوراثة من جهة الاب ، علما بأن ابناء الميارم (الأميرات من البيت الحاكم) لا يرثون السلطة إلا فيما ندر، اي في حالة تعذر وجود امراء من ورثة السلطة كما يقتضي ذلك نظام الحكم وفلسفته، وهذا قلما يحدث بسبب قلاع الصرامة وأسوار التشدد المضروبةحول هذا الامر.. اما مسألة الترشيح لمنصب السلطان فلها اعراف وتقاليد رصينة قائمة على صخر راسخ من الديمقراطية الاصيلة وراكزة على ناصية من نواصي الشورى العريقة ، ولعل الاختيار لمنصب السلطان لا يتم إلا في حالات محددة كحالة وفاة السلطان او عجزه عن الإضطلاع بمهامه وتصريف شؤون رعيته لعامل المرض العضال او غيرها، او إتيانه وإقترافه لفعل مخل بالاخلاق ومهدر للقيم الفاضلة، إذ انهم اي الداجو يفترضون في السلطان الاسوة الحسنة والقدوة الطيبة طالما قبل العهد والميثاق بالجلوس على أريكة الحكم المحرقة، فضلا عن تراثهم الاجتماعي الضارب الجذور في يم الحضارة الإسلامية وثقافتها مما إنعكس ايجابا على كافة مناحي حياتهم خاصة على صعيد أدبيات الحكم وأعرافه . أما بيت (اليايوقي) فهو البيت الذي يجمع ويكرس بين يديه كل السلطة التشريعية وبعض السلطات التنفيذية والقضائية في حالات استثنائية وطارئة كما اقتضت وأقرت ذلك فلسفة الحكم التي تعرضنا لنا في مقدمة هذا المقال، إذ ينحدر من هذا البيت سلالة (الجنادي) ومفردها جندي وهم عمال السلطان الذين يعينهم وينصبهم نيابة عنه في الأمصار البعيدة والمقاطعات الادارية التابعة للمملكة او السلطنة كما هو حادث والي عهد قريب جدا في سلطنة الدار الكبيرا بمنطقة غرب كردفان (جندية نكري، وجندية التمانيك) حيث كان هؤلاء (أي الجنادي) يقومون بإدارة وتصريف شؤون امصارهم ومناطقهم وفقا لميثاق العهد القائم بينهم وبين السلطان، مع ولائهم التام لكرسي السلطانية، علاوة على ذلك فإن كبير الجنادي الذي يشكل مع حكماء وشيوخ القبيلة المجلس السلطاني والذي يسمى بلغة الداجو (فاشرني)، والذي اخذ منه اسم مدينة الفاشر بدارفور، يعتبر ايضا كاتم سر السلطان وجراب رأيه ومستشاره الاول في شؤون المملكة او السلطنة ، كما انه عضو مرموق ومخضرم في محكمة السلطان، ويحل محل السلطان عند إعيائه ومرضه وينوب عنه عند وفاته لحين انتخاب سلطان جديد، وذلك درءا وتلافيا لحدوث اي فراغ اداري او سياسي قد يفضي الى وقوع فوضى او خلل يؤثر على استقرار الاوضاع العامة في المملكة، فكما اوضحنا سابقا فإن بيت (اليايوقي) هو البيت المالك لجماع السلطة التشريعية والقابض على مفاصلها، فعند وفاة السلطان او عزله لداع من الدواعي المذكورة آنفا، فإن شيوخ هذا البيت وكبراءهم هم الذين يعدون عدة التعيين لمنصب السلطان ويتصدون لعملية إختياره على هدى معايير محددة، حيث يتقدم امراء بيت (اللوقي) المذكور سابقا والذين يحق لهم الترشيح لمنصب السلطان بحجارة صغيرة بحجم قبضة اليد كل منها يرمز للأمير المحدد حيث تسمى تلك الحجارة بأسماء الامراء المتقدمين للمنصب ومن ثم تطرح لمجلس شيوخ (اليايوقي) الذين يتناولونها واحدة تلو الاخرى بالنقد والتحليل من خلال عمليات النبش والغربلة لسيرة كل من المرشحين، حتى يصلوا الى امير من بين الامراء المتقدمين ويجمعوا عليه بإعتباره افضل وأنسب من يجلس على كرسي السلطانية، ويذاع فوزه وسط كرنفالات الفرح ويدق له النحاس إيذانا - بأفول عهد وبزوغ شمس عهد جديد، وهكذا يجري تعميده وعقد لواء السلطنة له امام الملأ والهدف من كل هذا التحليل وذلك التمحيص الا يأتوا الى سدة الحكم إلا بمن هو اهل لها، وبمن هو قادر على الحفاظ على امجاد المملكة وسيادتها من خلال صون تماسكها وقوتها، علما بأن السيادة في تلك الفترة التاريخية الضاربة في القدم كانت للأقوى شكيمة والاشد بأسا وبما ان السلطان هو القائد الاعلى للجيش والذي يقود تشكيلاته في حالة الحروبات مع القبائل المعادية، إلا ان كبير الجنادي الذي ورد ذكره في اكثر من موقع يمثل هو الآخر القائد الثاني لقوات المملكة حيث يشارك في قيادتها وإسداء النصح والمشورة للسلطان، وهذا النظام كما ألمحنا سابقا كان يعمل به والى عهد قريب في سلطنات الداجو الصغرى بغرب كردفان، كذلك عندنا بيت (التقنجقي) وما لهذا البيت من سلطة روحية طاغية في مجتمع الداجو القديم وما اسبقتها واضفتها هذه السلطة على ذات البيت من شمائل الهيبة وخصائل الرهبة، قد تولدت في وجدانهم الاجتماعي اي الداجو وتشكلت فيه عروة وصلة قوية تقوم بينه وبينهم على ارضية صلبة من التوقير والتبجيل، وبناءً على هذه الحقيقة عملت فلسفة الحكم على توظيف وتكريس هذه الصلة الروحية الرفيعة في خدمة الادارة الامنية الداخلية بالنسبة لمجتمعهم، حيث كان هذاالبيت بمثابة دار شرطة وقانون لا يجرؤ اي كائن من كان ان يعتدي او يرتكب جريمة ولو على خصمه في حرم هذا البيت المبجل عندهم، لذلك عند وقوع حوادث قتل او حدوث جرائم جنائية داخل مجتمعهم كثيرا ما يلوذ الجناة بهذاالبيت او يقتادهم ذووهم إليه إلتماسا لسلامة أرواحهم او طلبا لأمن انفسهم، ويظلون في حمايته حتى يتم ابلاغ السلطان او الجندي بأمرهم ومن ثم يتم تقديمهم لمحكمة السلطان او محاكم الجنادي في الامصار البعيدة التي تقع تحت دائرة اختصاصهم، عدا بعض القضايا الكبيرة كقضايا القتل والتي تحول في الغالب الى محكمة السلطان للبت فيها، والحكمة من ذلك كله هي دفع الفتنة وإطفاء نيرانها وهي في مهدها حفاظا على الأمن الاجتماعي وسلامته وسط البيوتات المكونة لعصبة المملكة. ولعل من مظاهر النظام الإداري في مجتمع الداجو القديم ايضا إحتواء كل بيت من تلك البيوت على وحدة إدارية مجتمعية داخلية تسمى (تلقوني)،اي الراكوبة وهي بمثابة مجلس شورى مصغر يرأسه كبير الشيوخ في كل بيت، إذ تعمل على تذليل وحل المشكلات الصغيرة بين افراد البيت الواحد دون تصعيدها الى مجلس السلطان (فاشرني)، او الى محاكم الجنادي ويمثل اهل الراكوبة كذلك في التجمعات واللقاءات الكبيرة التي يدعو لها السلطان او الجندي، ومن ثم يعكس لهم ما دار فيها.. ولعل الناظر لبعض ملامح نظام الحكم الذي استعرضناه آنفا وما فيه من قوة تنظيم ودقة ترتيب، يكتشف بأن فلسفة النظام الاداري عند الداجو قديما هي سر من اسرار تفوقهم وسيادتهم في غرب السودان عموما ودارفور على وجه الخصوص، في غضون فصل من فصول السودان القديم..! ٭ باحث