كتبت أكثر من مرة مؤكدا أن وحدة السودان هي وحدة قدرية تفرضها الطبيعة ولا تقوم - فقط على اسس سياسية، وحتى أجعل تلك الفكرة واضحة أشير إلى أن السودان الحديث لم يكن ذا وجود سياسي قبل حكم محمد علي باشا، إذ كان له فقط وجود جغرافي حيث كانت جميع مناطق هذا البلد الكبير تتواصل مع بعضها بعضا دون أن تكون بينها روابط سياسية، وهكذا عندما جاء محمد علي باشا ظل همه الأول أن يؤمن تدفق مياه النيل إلى مصر من خلال رؤية سياسية واسعة، وذلك ما دفعه كي يتحرك جنوبا ليرسم الحدود الجغرافية لدولة السودان الحديث، ولم يكن محمد علي باشا بحاجة إلى جيوش تؤمن له هذه الوحدة، ذلك أن الجغرافيا كانت قد أمنتها بصورة طبيعية، وهو ما يجعلنا ندرك الحقائق التالية: أولا، ظلت المنطقة التي كانت تعرف باسم جنوب السودان قبل الاستفتاء الأخير منطقة مغلقة غير قادرة على الانفتاح على العالم الخارجي دون المرور بشمال السودان، إذ الخيار الآخر هو المرور بدول شرق أفريقيا، وقد يظن الكثيرون أن المرور عن طريق دول شرق أفريقيا هو الخيار الأفضل بسبب تقارب السلالات بين قبائل جنوب السودان وقبائل تلك الدول، ولكن ما أغفله هؤلاء هو أنه اذا حدث ذلك فسيكون على حساب الدولة الجديدة التي أراد الجنوبيون إقامتها، ويبدو في ضوء ذلك أن التعامل مع الشمال هو دائما الخيار الأفضل، ولكن إذا تحقق ذلك فسيكون خيار الانفصال لا معنى له، إذ سيدرك الجنوبيون حينذاك أن الوحدة مع الشمال هي الوضع الطبيعي وهو ما ستثبته الأيام قريبا. أما إذا نظرنا إلى الصراع في دارفور، فسوف ينشأ سؤال مهم وهو هل الصراع القائم هو صراع بين المتمردين وبين نظام الحكم في الخرطوم أم هو صراع بين إقليمين يريد أحدهما أن يؤمن لنفسه انفصالا من أجل إقامة دولته المستقلة، والمقصود بالطبع إقليم دارفور، ومع افتراض أن هذا الإقليم يريد الانفصال فإن السؤال القائم دائما هو هل المشكلة هي بين الحكومة والمتمردين أم هي بين سكان الإقليمين؟ وهنا نقول إذا كانت المشكلة مع الحكومة فإن السؤال الذي سينشأ هو هل يؤدي أي اتفاق معها إلى حلول نهائية في وقت نعلم فيه أن الحكومات تتغير؟ اما إذا كان الخلاف مع سكان الوسط فإن السؤال المهم الآخر هو هل الثورة هي السبيل الوحيد لإصلاح ذات البين في وقت نعلم فيه إن العلاقات بين إقليم دارفور ومناطق الوسط كانت دائما علاقات قوية ومتينة؟ إذ يعلم الجميع أن دارفور هي التي دعمت الثورة المهدية من أجل تحرير وسط السودان بل وتحرير السودان كله من النفوذ الأجنبي؟ الحقيقة التي لا بد أن تكون واضحة هي أن إقليم دارفور شأنه شأن جنوب السودان أمامه خيار واحد، فإما أن يصبح هذا الإقليم جزءا من السودان، وإما أن يصبح جزءا من دول غرب أفريقيا، وفي هذه الحالة لن تتحقق له مصالح اقتصادية أو سياسية. ومن هذا المنظور، إذا نظرنا إلى الواقع السوداني بصورة عامة، وجدنا أن الصراعات الدائرة فيه لا تحركها ظروف داخلية بقدر ما تحركها عوامل خارجية، كما حدث في جنوب السودان حيث ضغطت الولاياتالمتحدة حتى أوصلت الجنوب إلى خيار الانفصال، ولم تتوقف الولاياتالمتحدة عند ذلك إذ هي مستمرة في خلق المشاكل بين الشمال والجنوب من خلال قضية أبيي وما زالت تهدد الشمال بأنها ستواصل فرض العقوبات عليه إذا لم يتراجع عن مواقفه المتشددة إزاء هذه القضية، ولا يبدو أن مسلسل الصراعات والتقسيم في السودان سيقف عند هذا الحد لأن هذا المسلسل لا يحكمه موقف من حكومة السودان، كما يظن الكثيرون بل تحكمه أمور أبعد من ذلك بكثير، ويبدو بكل وضوح أن الهدف الأساسي، من مؤامرات تقسيم السودان هو خلق المشاكل لمصر في الشمال، وقد يقول قائل لماذا تتآمر بعض القوى الخارجية على مصر في وقت أثبتت فيه مصر حسن نواياها عندما أقامت علاقات طيبة مع إسرائيل ورضخت لكثير من مطالب الولاياتالمتحدة؟ والإجابة هي وبكل بساطة، إن ما قدمته مصر لا يكفي في نظر إسرائيل والولاياتالمتحدة، وإذا كان ما قامت به مصر في الوقت الحاضر تقبله هاتان الدولتان في الوقت الحاضر، فإن هاتين الدولتين تنظران إلى البعيد واحتمال أن تستعيد مصر قوتها من جديد وتشكل تحديا أمام إسرائيل، لذلك فإن الخيار الأفضل أمام الولاياتالمتحدة وإسرائيل هو أن توضع مصر في حالة ضعف مستمرة، ولا تتحقق هذه الحالة إلا بخلق المشاكل لمصر مع جيرانها الجنوبيين بحيث تجد نفسها في مشاكل متواصلة بشأن مياه النيل. وبكل تأكيد فإن هذا الوضع قد لا يبدو مريحا للسودان بسبب القرب الإثني وكون السودان نفسه يعتبر دولة مرور لنهر النيل وليس دولة منبع، لكن للأسف الشديد فإن مصر بعد محمد علي باشا لم تهتم كثيرا بمصالحها في هذا البلد، إذ ٍعلى الرغم من أن شعار وحدة وادي النيل هو الشعار الذي رفع قبل استقلال السودان فإن تصرفات مصر مع اللواء محمد نجيب والذي تولى رئاسة مصر لفترة محدودة وكان ذا اصول سودانية هو الذي جعل السودانيين يتجهون نحو الاستقلال ولم يحرك هذا الاتجاه ساكنا في مصر التي انجذبت خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر نحو شعارات الاشتراكية والوحدة العربية وتجاهلت بصورة كاملة مصالحها في السودان، وذلك ما أدى إلى التضحية بكل سكان منطقة النوبة الذين كانوا همزة وصل بين السودان ومصر حيث أغرقت مناطقهم من خلال مشروع السد العالي وتم ترحيلهم إلى داخل السودان ومصر ليكتشف الجميع في نهاية الأمر أن مشروع السد العالي لم يكن مشروعا حكيما قبل أن تمتلك مصر القوة الكافية التي تدافع بها عن حقوقها المشروعة في مياه النيل. وما نهدف إليه هو القول إن المؤامرات من أجل تمزيق السودان لن تتوقف بكون الهدف من ورائها ليس هو السودان في المقام الأول، بل مصر، و مع ذلك لا نستطيع القول إن مصر في وضعها الراهن قادرة على أن تحمي مصالحها في السودان، فهي إلى جانب أنها لا تمتلك القوة الكافية مازالت تنظر إلى نفسها على أنها قوة إقليمية تساعد في حل المشكلات كما حدث في تحركها نحو جنوب السودان من منطلق أنها تحل مشكلة بين الشمال والجنوب دون أن تدرك أن المشكلة هي مشكلتها في الأساس. وهنا لا بد أن نركز على أن العمل المشترك بين مصر والسودان أصبح ضرورة لازمة، ولا يجعلنا ذلك نرفع شعارات قديمة لم ينجح البلدان في تحقيقها مثل شعار وحدة وادي النيل، إذ لا بد أن يفكر البلدان في أسلوب جديد يحققان به التكامل والتآزر بينهما، غير أن هذا الواقع يتطلب التخلي عن كل الحساسيات القديمة وخاصة تلك السائدة في داخل السودان، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يجب أن يحدث تطور في البلدين بحيث تكون هناك نظم سياسية ومدنية حديثة تحقق التقدم للشعبين، إذ انتهى عصر الانقلابات واحتكار السلطة والتقوقع حول أفكار ضيقة، ومن هذه الناحية فلا بد أن تسارع مصر في وضع أسس النظام الجديد بعد الثورة لأن ما يريده الشعب المصري ليس هو فقط مرحلة انتقالية مستمرة تؤسس لنظام حكم غير واضح المعالم بل ما يريده هذا الشعب هو نظام جديد يؤسس لقيام دولة حديثة، ولا يختلف الأمر في السودان الذي لم تقع فيه ثورة شعبية، ولكن بكل تأكيد فإن الناس فيه يتطلعون إلى مرحلة جديدة يشارك فيها الجميع ليس في تولي السلطة فحسب بل في وضع الأساس لنظام عصري يمكن السودان من استغلال موارده الهائلة من أجل بناء دولته الحديثة. ولا شك أن توجه مصر والسودان نحو هذا الواقع الذي دعوت إليه سوف يوقف سيل المشاكل التي بدأت تطل برأسها خاصة في العلاقات بين مصر والسودان من جهة ودول حوض النيل منة جهة أخرى، مع التأكيد على أن الخيار الوحيد المفتوح الآن من أجل وقف سيل التآمر على البلدين هو العمل المشترك وجعل المتآمرين يدركون أن الشعبين في مصر والسودان على إدراك بما يحاك ضدهما. كاتب سوداني مقيم في الدوحة*