رغم أنني شغوف بالتعليق على الأخبار والأحداث اولا بأول، وجدت نفسي غير مكترث للتعليق على ما أعلنه رئيس الجمهورية بأنه لن يترشح لدورة رئاسية جديدة، والسبب في الإحجام من جانبي عن تناول الأمر هو قناعتي بعدم جدوى تناوله، ولعل هذا لم يكن مختصرا عليّ وحدي من الذين يتناولون الشأن العام ولم أجد تعليقات معتبرة حول الأمر والناس لهم اعذار وموانع، ولكن ما حال بيني وبين الخوض في الموضوع فور إعلانه هو عدم جدوى الحديث فيه كما ذكرت خاصة وان حديث الرئيس بأنه لن يترشح مرة أخرى قد سبقه تصريح شهير للدكتور نافع علي نافع نائب الرئيس لشؤون الحزب والذي قال تعليقا على إمكانية ان يترشح الرئيس عمر البشير مرة أخرى بأن الرئيس ليس هو من يحدد ترشحه من عدمه وإنما مؤسسات الحزب هي من تقرر ذلك. وعندما أمسكت قلمي عن الخوض في الأمر كنت محقا حسب هذه القراءة حتى جاء الأستاذ كمال حسن بخيت رئيس تحرير الرأي العام ليبين شسئا مهماً في نظري حول هذا الموضوع، وهو أن الأمر ليس قابلا للتداول والأخذ والرد فقط، ومن الصعب الحديث عنه كما تصورت ولكن الحديث عنه هو فعل أشبه بالذي يؤدي الصلاة قبل وقتها. وجاء ذلك في مقاله بالرأي العام بتاريخ الأربعاء 1 يونيو 2011م. ومعلوم أن الله عز وجل جعل للصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا، وجاء الأستاذ كمال ليجعل من الحديث عن ترشيح الرئيس لدورة رئاسية جديدة من عدمه حديثا سابقا لأوانه ويبطل كما تبطل الصلاة في غير أوانها ووقتها المعلوم حيث قال الأستاذ كمال (الذي لا اريد ان ارد عليه بقدر ما انه عزز قناعاتي بعدم جدوى تناول الأمر)، قال: (أطلق عدد من المسؤولين في مفاصل الدولة والحزب تصريحات حول عدم رغبة رئيس الجمهورية في الترشح لدورة رئاسية أخرى كما أطلق الرئيس نفسه تصريحا مشابها وفي تقديري أن هذه التصريحات جاءت في وقت مبكر للغاية لأن الفترة الحالية لرئيس الجمهورية ما زال الباقي منها الكثير ولا ادري سر هذا التعجل في هذا الأمر وكأن هناك بديلا جاهزا.) وعدّد الأستاذ كمال مخاطر هذه التصريحات المبكرة كما يعدد الفقهاء مخاطر الصلاة قبل وقتها، ولكوني لا اريد الرد على الأستاذ كمال اكتفي بواحد فقط من مخاطر الحديث عن ترشيح ريس الجمهورية قبل أوانه مما جاء به كمال وهو أن التصريحات المبكرة حول هذا الأمر تعطي قوي المعارضة فرصة الترويج عن وجود انقسامات وخلافات داخل الحزب الحاكم كما أعطت بعض الأقلام الفرصة لتشطح وترشح اسماء شابة لخلافة الرئيس خلافا لما قاله الأستاذ أحمد عبد الرحمن عن شيخ علي ود. نافع وكلها إجتهادات وسط شباب الصحفيين قليلي التجربة الصحفية والسياسية ((إنتهي حديث المخاطر)) عند الاستاذ كمال حسن بخيت ولكن بإمكانكم النظر إلى حجم القداسة والخطورة التي يمنحها الأستاذ للموضوع لدرجة أن لا يخوض فيه الصحفيون قليلو التجربة الصحفية والسياسية. ومن المؤكد رغم كل هذا العناء في تناول الأمر فإن إثارة الأمر من جانب رئيس الجمهورية نفسه وعلى هذا النحو ليس بعيدا عن حركة التغيير الثوري التي تنتظم البلاد العربية من أكثرها رسوخا واستقرارا كما هو الحال في مصر إلى اكثر هذه الدول تمزقا وهي الصومال التي يضرب بها المثل في التحذير مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في وطن من الأوطان بسبب الحراك والتغيير السياسي وما يعرف بالصوملة ولكن حتى الصوماليين يريدون التغيير السلمي إن وجدوا لذلك سبيلا والتغيير في السودان تأخر لأسباب موضوعية ومن الممكن ان يحدث فور ذهاب الأسباب المعلومة وأهمها اتفاقية السلام الشامل والاستفتاء على حق تقرير المصير في جنوب السودان ومن ثم انفصال الجنوب وقيام دولة مستقلة باسم دولة جنوب السودان ومن المؤكد أن الشعب في السودان الفضل يريد الديمقراطية والحرية والعدالة مثله مثل اخوته في الأمة العربية والإسلامية التي ينتظمها حراك من إيران إلى باكستان إلى جيبوتي وزنجبار، ومن المؤكد أن تاريخ التاسع من يوليو القادم يشكل علامة فارقة وفاصلة في علاقة الشمال بالجنوب ومن بعد ذلك فإن الشعب يقرر من إن كان يريد إسقاط النظام أم أن النظام من تلقاء نفسه سوف يستلهم عبقرية شعبه ويرد السلطة للشعب لكي يفعل بها ما يشاء. وهذا الخيار مطروح الآن ولكنه يمضي ببطء وعزوف من جانب الحزب الحاكم الذي ينظر للأيام القادمة على انها إمتداد طبيعي للحاضر لسبب واحد وهو الاعتماد على الفترة المتبقية من مدة رئيس الجمهورية ومن الإنتخابات القادمة بعد اربعة أعوام وهذا خطأ في التقدير وإستهانه كبرى بالذي جرى في السودان وهو فصل الجنوب عن الشمال والذي يعتبر اكبر مصيبة وكارثة تحل بالشعب السوداني منذ وجوده على هذه الأرض وإذا لم يقف السودانيون كل يوم من حياتهم دقيقة من الزمن حدادا على جنوب السودان فعليهم مراجعة وطنيتهم وعلاقتهم بتربة ارضهم . الأمر الثاني ان رئيس الجمهورية قدم من خلال تصريحه الذي صدر اخيرا اسبابا لعدم ترشحه للإنتخابات القادمة وهي أن عمره سيكون وقتها قد ناهز السبعين بعد عمر مديد وهذا سبب وجيه لكي يتخلي الرجل عن المسؤولية ويتناول الفطور مع المدام كما قال الأستاذ إسحق احمد فضل الله ولن يكون عمر الإنسان مكانا للمزايدة أو شماتة حاسد كما قال المتنبي، وقال الرئيس في حديثه للراية القطرية (26 عاما في الحكم كفاية واكثر من كفاية. والملاحظ إذا سارت الأمور على غير ما صرح الرئيس وشملت مدته الدورة الحالية والقادمة فإنه يكون قد حكم السودان لحقب تبدأ بالإنقاذ الأولى وحكم الفترة الإنتقالية منذ توقيع إتفاق نيفاشا وهو اليوم رئيس السودان وبعد التاسع من يوليو رئيس لشمال السودان فإذا كانت الأسباب التي ذكرها رئيس الجمهورية تمثل الدوافع الحقيقية لعدم مواصلته في الرئاسة يقتصر المدة الزمنية لحكمه من ثلاثين عاما لستة وعشرين عاما كما تمنت ذلك الدكتورة سعاد الفاتح البدوي في مجلس شوري المؤتمر الوطني الذي إنعقد بعد المفاصلة بين الإسلاميين وكرس إنشقاق الحركة الإسلامية كما كرس لسلطة البشير مع دعوات من دكتورة سعاد ببلوغ الثلاثين في حكم السودان ومن الممكن أن تكون تصريحات رئيس الجمهورية لا علاقة لها بالأسباب الموضعية التي ذكرها وإنما هي استباق للثورة الشعبية في السودان وغير التجاهل لإمكانية وقوع ثورة هناك إصرار من جانب المؤتمر الوطني على الاستمرار في السلطة بعد فصل الجنوب وفي هذه الحالة فإن المعارضة لن تروج لعدم ترشيح البشير لنفسه في الإنتخابات القادمة ولكن عليها باليأس من اتفاق مع المؤتمر الوطني حول رؤيتها الخاصة بالوضع في السودان بعد التاسع من يوليو والتي تتلخص في تشكيل حكومة قومية أو إنتقالية ويظهر ذلك بجلاء في قول رئيس الجمهورية بان المؤتمر الوطني يمكن له خلال هذه الأعوام الأربعة أن يجد من الشباب من يتولى الرئاسة وهذا يعد في نظري نفاذ للأمور بصورة ذكية تجعل العين لا ترى إلا الإشارة التي اشار إليها المتحدث وكأنها لا شيء سواها وما يتحدث عنه من ثورات عربية لا يعني السودان في شيء ولا حتى هناك اسباب لقيامها طالما أن الرئيس البشير يختلف عن بقية الرؤساء العرب الذين أطيح بهم بالبعد عن الفساد وهو صاحب يد طاهرة لا تمتد للمال العام ولكن هناك رئيس واحد على الأقل من الرؤساء العرب غير متهم في امانته وهو الرئيس بشار الأسد الذي تندلع في بلاده سوريا ثورة شعبية قدمت ارتالا من الشهداء في سبيل الحرية ولم يقل الثوار ان رئيسهم متهم في ذمته المالية. أما الجانب المتعلق بخلافة الرئيس فالأمر فيه جانبان جانب يتعلق برئاسة البلاد وجانب منه يخص المؤتمر الوطني ومرشحه لرئاسة الجمهورية وبعد انفصال الجنوب لن تعترض أي مرشح للرئاسة في السودان فتاوى من شاكلة التي كنا نسمعها في السابق بأن لا يجوز لغير المسلمين وللمسيحيين بالترشح لرئاسة الجمهورية لحرمان ابناء الجنوب من هذا الحق الوطني الذي يكفله القانون والدستور وكل الشرائع السماوية وحسب التصريح المنسوب للأستاذ احمد عبد الرحمن محمد الوزير بمجلس الصداقة الشعبية العالمية فإن المرشح للرئاسة من جانب المؤتمر الوطني لن يكون من غرب السودان ولن يكون المرشح القادم من الشباب لكون الاستاذ أحمد عبد الرحمن قد سمى كلا من الشيخ علي عثمان أو الدكتور نافع علي نافع لخلافة الرئيس عمر البشير وكلاهما سيكون يومها في عمر الرئيس وتجاوز عمر النبوة. وبالنظر لكل ما ذكرناه وما لم نذكره في هذا الخصوص حول خليفة الرئيس من أبناء الشعب السوداني إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة والسلاسة ونحن نرى رجالا من الحزب الحاكم يتم إبعادهم لكونهم يريدون أن يكونوا رؤساء حسب ما رشح من معلومات حولهم ومن تصريحات لمتنفذين في المؤتمر الوطني منهم على سبيل المثال الفريق صلاح قوش الذي تم إبعاده لتناوله مثل هذه الأفكار والتداول حولها مع بعض قادة المعارضة. ولن يكون الأمر بهذه البساطة وهناك من يتحدثون عن بيعة للرئيس الحالي وكيف أنها ملزمة لكل قيادات الحزب الحاكم بالدرجة الأولى وللآخرين من الشعب السوداني وهي بيعة تأبي بالرئيس أن يترك الرئاسة بحكم الشرع والدين وعقد البيعة للحاكم ذي الشوكة والتي لا ينقضها ناقض إلا الموت هكذا يقولون ويفتون ونحن هنا أمام دولة دينية وبعيدون كل البعد عن الدولة المدنية التي أسسها الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينةالمنورة وجمعت المسلمين وغير المسلمين من اهل الكتاب وشكلت أكبر نموذج للعدالة عرفته البشرية على إطلاقها ما أعانها على مزيد من التوسع في الأرض لكون الإنسانية كلها كانت في حاجة ماسة لعدل الإسلام والمسلمين. ولابد أن نختم هذا الموضوع بالحديث عن الشباب والذين هم السبب في قيام الثورات العربية ولم يتقدم الشباب في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من المواقع لقيادة حركات التغيير لأنه يريد أن يتولى السلطة ويبعد الشيوخ أو يحيلهم للتقاعد رغم خبراتهم وتمرسهم في السلطة وقدرتهم على إدارة دفة الحكم ولو كان الأمر كذلك ما كان رئيس وزراء مصر اليوم فوق الخمسين ووزير الخارجية المصري العربي فوق الستين ورئيس وزراء تونس ورئيس المجلس الإنتقالي في ليبيا فوق الستين من أعمارهم، إن الامر ليس كذلك ولو حدث هكذا لكان إنقلابا اجتماعيا وصراع اجيال ولكن وما ثار من أجله الشاب هو التغيير نحو الأفضل والحريات العامة والشفافية وإنهاء حالة حكم الفرد التي تنتظم العالم العربي وعندما لم يجد الشباب كل هذه القيم او بعضها في الأوضاع الجديدة خرجوا للساحات مرة أخرى فى مصر وتونس، والمشكلة أننا فهمنا الأمر بنحو خاطيء وأعتقدنا أن الدفع بالشباب وتولي بعضهم الوظائف والوزارات من غير خبرة ولا إدراك هو المقصود بالأمر لدرجة أن الواحد منهم يمكن ان يكون خليفة لرئيس الجمهورية وهو شاب غض وهذا يذكرني بتقاليد الوراثة في الإدارة الأهلية التي تأتي بشيخ القبيلة أو الناظر وهو صغير السن ويجب أن يتولى السلطة في القبيلة بعد وفاة والده بحكم الإرث وعندما يعجز الناظر الطفل عن تسيير الأوضاع يؤتي بآخر يكون على سبيل الرعاية حتى يشب الناظر الفعلي عن الطوق، وهذه مشكلة حقيقية ويدفع العمل الرسمي في الولايات والوزارات ثمنا لظاهرة صغار السن من الولاة والمعتمدين والإداريين، ونحن لا نريد ان يكون أمر الشباب هو أشبه بالترضية من قبل الحكومة لهذه الفئة التي يجب أن تتدرج في الوظائف تدرجا طبيعيا من غير حرق للمراحل وذلك لأن شريحة الشباب في المجتمع شريحة كبيرة ولن يمثلها وزير أو وزيرة من الشباب والوزارة نفسها لا تعني شيئا بالنسبة لهذه الفئة لأن الوصول إليها عن طريق الولاء السياسي في الغالب الأعم ولكن ما يطلبه الشباب فعلا هو الاهتمام بهم ومكافحة البطالة وسطهم وتعليمهم وتدريبهم من خلال برامج وطنية شاملة وكافية ومشبعة بروح التطلع لدى الشباب وتحقيق القيم العليا في المجتمع من حرية وديمقراطية وغيرها.