الجمهورية الثانية كما افترضناها في حديث سابق مطلع العام الحالي وفي مقالات ثلاث نشرتها صحف «التيار» «والصحافة» «والايام» ليست تمديداً وزمناً اضافياً للانقاذ وإنما هي نهاية تاريخ الجمهورية الاولى بما فيها عقدا الانقاذ . فالانقاذ هي ختام ونهاية هذه الجمهورية .... جمهورية الاستقلال والحرب والسلام من توريت 1955 الى نيفاشا 2005 وانفصال الجنوب . لقد انتهت حقبة الديمقراطيات الثلاث والشموليات الثلاث في تاريخ السودان المعاصر ... تاريخ نصف قرن مضى وانقضى بغضه وغضيضه .. وبإنجازات الديمقراطيات والشموليات الثلاث واخفاقاتها ... وبزعمائها العظام الاكابر : من قضى منهم نحبه ومن ينتظر : الأزهري والفريق عبود والمشير النميري والمشير سوارالدهب والرئيس البشير ومن أعانهم من القادة والساسة ، ومن تبعهم باحسان للأمة والوطن . فالجمهورية الثانية ليست نسخة محسنة للإنقاذ ولا هي تجديد بيعة للمشروع الحضاري أو جراحة تجميلية له وإنما هي مشروع جديد لعصر سوداني جديد ولحقبة جديدة في تاريخ السودان . لقد انجزت ثورة الانقاذ الوطني على مدى عقدين من الزمان نصف ما وعدت أو يزيد قليلاً ، تنمية وتطويراً وسلاماً وإن جاء أقل شمولاً ( حرب دارفور وأزمة أبيي) وأغلى ثمناً ( إنفصال الجنوب وأزمة البترول . ) ولكن فلتهنأ الانقاذ بما انجزت وسلام عليها وعلى مشروعها الحضاري « ولا يكلف الله نفساً الا وسعها.. « وللانقاذ ما كسبت للسودان وعليها ما اكتسبت وآن لها أن تترجل من سدة الشمولية الثالثة وأن يترجل من الساحة السياسية حداة ركبها وقاداتها الاوائل عزيزين مكرمين مكانهم سجل الخالدين من قادة السودان وزعمائه . فلكل عصروزمان رجاله ونساؤه ولكل عصر جديد آماله وتحدياته وآياته .. وآية زماننا هذا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وكرامته ، كاملة ومتكاملة لا ينتقص منها قانون أو وصاية أبوية من حزب واحد أو رئيس أوحد قائد ملهم أو وريث متربص يستخلف على ملك عضود وعلى جمهورية تُورَّث ! كان سلام نيفاشا سقف الانقاذ ومسك ختامها وختام الجمهورية الأولى .. جمهورية الاستقلال والحرب والسلام كما وصفناها وقد أطل على السودان الآن فجر جديد، وعصر جديد، وحقبة جديدة من حقب التاريخ يلزم السودانيين فيها التجديد فكراً واطراً ومؤسسات ومناهج وفوق هذا وذاك قيادات شابة وبريئة من الولاءات القديمة ومن الانتماءات الطائفية والعرقية والقبائلية الماثلة .. جيل بريئ من ولاءات الاحساب والانساب والآيديولوجيات الجاهزة المعلبة والتي انتهت صلاحياتها مع بزوغ فجر العولمة والأنسنة ( حقوق وكرامة الانسان ) .. هذه الانتماءات والولاءات التي اصبحت معيبة وضارة بالصحة السياسية وبصحة البيئة الثقافية والاجتماعية ... وصارت حجاباً وغشاوات تحجب النظر الثاقب عن أفق المستقبل البعيد . ولتبدأ الجمهورية الثانية بالبراءة من الشمولية .. البراءة من نظام الحزب الواحد والفكر الآحادي والقائد والرئيس الأوحد تجدد له الولاية .. ولاية بعد أخرى ، والبراءة من برلمان الحزب الواحد .. البرلمان الساكت عن الحق حيناً وعلى الفساد أحياناً ، والذي اذا شرَّع وراقب يعاتب ولا يحاسب ولا يعاقب وزيراً على تقصير ولا فاسداً على فساد . وثم البراءة من إعلام مادح مناكر ومن جهاز أمن باطش قاهر سادر في تقصي عورات الناس وخصوصياتهم مهموم بها دون ثغرات الوطن ومهددات امنه . ولندشن الجمهورية الثانية بدستور جديد يجُب ما قبله من دساتير ولا يستبقي ويقتبس من دستورنا الحالي .. دستور 2005 الا باباً واحداً هو وثيقة حقوق الانسان وهي أعظم وأرقى منظومة عرفتها كل الدساتير المعاصرة .. ولتبدأ الحقبة الجديدة بدستور نكتبه بمداد الاجماع الوطني ليكون محصلة حوار واسع عميق واجماع بين كل الاطياف السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية مضافاً اليها بل في مقدمتها رؤى وتطلعات جيل الشباب اللامنتمي لحزب أو لطائفة أو لآيديولوجية الا الانتماء للوطنية السودانية وللهوية السودانية ..... شباب الانترنت والفيس بوك الاكثر معاصرة وتأهيلاً والذي ملك ويملك ناصيه المعارف الجديدة والتقنيات الحديثة لمغالبة تحديات التجديد الديمقراطي وترسيخ ثقافة الديمقراطية وقيمها دون قشورها وبريقها وفي مقدمتها تعميق الايمان الفطري بالحرية وبكرامة الانسان . وليبقَ وسيبقى لزوماً وحقاً ديمقراطياً في سياق التعددية الحزبية القادمة حزب الانقاذ ، المؤتمر الوطني . وقياداته الشبابية في الساحة السياسية بعد الفطام من الرضاع في ثدي الحكومة ، يحمل مبادئ الانقاذ وما بقي من مشروعها الحضاري جنباً الى جنب مع سائر القوى الاخرى التقليدية والحديثة. والمستحدثة ، عليه ما عليها من واجبات واستحقاقات تجاه الامة والوطن وله ما لها من حقوق ... وليتنافس المتنافسون من بعد في ظل الدستور الجديد وفي ظل الرؤيا الاستراتيجية القومية الجديدة وما يتبع كل هذا من قوانين تؤطر وتضبط من جديد الحقوق والحريات والممارسات الحزبية في مناخ من الاستقرار والسلام الاجتماعي والوفاق الوطني « والحشاش يملأ شبكته .» وليستشرف هذا الحوارالوطني الجامع حول الدستور العشرية الثانية والثالثة من هذه الألفية برؤيا استراتيجية ثافبة تنفذ الى أفق السودان الجديد وقد بات أقل سكاناً ومساحة وموارداً ظاهرة واعظم تحديات من حيث وحدة وتماسك ما بقي منه واستدامة السلام والاستقرار فيه . * الجمهورية الثانية ليست مجرد مصطلح سياسي مقتبس من التجربة الدستورية الفرنسية بجمهورياتها الخمس وإنما هو عنوان لنظام سياسي سوداني جديد يبرأ من التحزب الطائفي والآيديولوجي ومن الشمولية ويؤسس على التوسط والوسطية في الفكر السياسي للحرية والديمقراطية وكفالة حقوق الانسان في الممارسة والتجربة العملية .