مكنت القوة العسكرية الباطشة المحتل البريطاني من حكم السودان منفرداً قرابة الستين عاماً مع اعتماده سياسة فرق تسد لمنع توحد القبائل والطوائف الدينية والأقاليم السودانية في وجه المحتل الأجنبي، وقد منحت هذه السياسة الماكرة المحتل الأجنبي قوة أكبر في اللعب على تناقضات السودانيين سواء أكانوا قادة عشائر «نظار وسلاطين وعمد ومشايخ» أو زعماء طوائف دينية «ختمية وأنصار»، مثلما فعل قانون المناطق المقفولة فعل السحر في توسيع الشقة بين الشمال والجنوب، وخلق الهوة الثقافية الكبيرة بين شطري الوطن. ويُشهد للإدارة الانجليزية الاستعمارية تمتعها بقدر كبير من الحصافة السياسية، وذلك بالاعتماد على نخبة من الإداريين الأكفاء الذي فهموا العقلية والروح السودانية الذي تميزت بالشجاعة والاعتداد بالنفس، مع المقدرة الفائقة على التسامح المفعم بالمشاعر الإنسانية في التعاطي الودود مع الآخر لدرجة سحرت كل من خالطهم، وهذا ما وثقته كتابات بعض هؤلاء الإداريين أمثال السير دونالد هولي (Donald Howley)، أحد أبرز الإداريين البريطانيين العاملين بالسودان في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، والذي تناول كتابه (SUDAN CANTERBURY TALES) «حكايات كانتربري السودانية» تجارب عدد من الإداريين البريطانيين في السودان مستوحياً حكايات كانتربري الشهيرة التي ألفها الشاعر البريطاني «جفري سوشر»، في العصور الوسطى. وكان من المتوقع أو المأمول أن تشهد العلاقات السودانية البريطانية آفاقاً أرحب من التطور والتعاون الاقتصادي كسائر علاقات الدول العظمى مع مستعمراتها السابقة، ولكن لما أن انقطعت خبرة ذلك الجيل المخضرم في التعامل مع شعوب المستعمرات ومجيء جيل جديد إلى سدة الحكم في بريطانيا أمثال «توني بلير» الذي لعب دور التابع للمحافظين الجدد حتى اتهمه بعض البريطانيين بتفضيل المصالح الأمريكية على مصالح شعبه، لتوريطه بريطانيا في العراق كما تورطت من قبل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م حيث شابه الفشل الأمريكي في العراق ما حدث في حرب فيتنام، فها هي قوات التحالف تريد الخروج من المستنقع العراقي دونما اعتراف بالهزيمة وترك فراغ أمني تتطلع القوى الإقليمية لملئه بعد أن أضحت أهم اللاعبين في أرض الرافدين !! . وفي خضم التورط الإنجلوسكسوني في العراق الذي لاقى معارضة عالمية قوية، خُلقت مشكلة دارفور لصرف الأنظار عن الممارسات البشعة لقوات التحالف في الفلوجة والنجف الأشرف ومعتقل أبو غريب وغيره من المدن العراقية، فأصبح العالم في حيرة بين ما يشاهده عبر الفضائيات من انتهاكات لحقوق الإنسان بالعراق، وما يسمع عنه من تهويل للأوضاع الإنسانية في دارفور !!، وها هو المستر/ نيكولاس كاي السفير البريطاني بالسودان يريد تدوين بصمته في «حكايات كانتربري السودانية» على نحو مختلف بأحياء ذاك المنحى التهويلي بالتشكيك في مساعي السلام من خلال «رحلته السريعة لدارفور» والمنِّ على السودانيين بما أنفقته بلاده من ملايين الجنيهات الإسترلينية في حفر آبار المياه والمساعدات الإنسانية بولايات دارفور.. في الوقت الذي فاقت فيه الاستثمارات والمساعدات الصينية للسودان غير المرتبطة بالأجندة السياسية الغربية فاقت المليارات من الدولارات..!!