الخرطوم: عبد الوهاب جمعة من البحر جاءوا.. وفي البر استوطنوا، تلك هي دائما حياتهم، انهم الاغاريق بأجساد تشبه اخيل وهكتور، وبنفوس متقدة كما ارسطو وارخميدس.. استقروا في السودان وتركوا وراءهم كل شيء في بلادهم، واقاموا كل شيء في وطنهم الجديد من تجارة الخردوات والبقالات الى المقاهي، وعلموا السودانيين مهناً جديدة لم يألفوها ويعرفوها، وشغلوا مناصب عليا في القطاع العام والمشاريع الزراعية المهمة، مثل مشروع الجزيرة، واحدثوا تأثيرا على الاقتصاد الحضري في البلاد. وبدأت الجاليات الإغريقية تتكون في بدايات القرن الماضي في الخرطوم وفي مدن السودان المختلفة، بورتسودانوكوستي ومدني والقضارف والأبيض وعطبرة وواو وجوبا، حيث سيطر الأغاريق على غالب النشاط التجاري في هذه المدن، بيد أن جيلهم الثالث صعب عليه التألقم ورحلوا عائدين الى موطنهم، خصوصا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ونستعيد ذكراهم عبر السياحة في مدينة سودانية مازالت الى اليوم تحمل اسم احد الرواد الاوائل من الاغاريق، انها مدينة كوستي، فقد التقينا بدكتور نصر الدين شلقامي ليحدثنا عن قصة كوستي مع الأغاريق، وقال لنا: سميت كوستي على احد الاغاريق واسمه كوستي موريكي، وكان تاجرا يبيع الشاف وريش النعام والجبنة قرب ضريح شيخ التيجاني. وكان عرب بادية كوستي يبيعون له البن، وبشهرته اطلق الناس على المكان كوستي. ويواصل شلقامي قائلاً: في فترة الخمسينيات وفد عدد كبير من الاغاريق، وانشأ احد الاغاريق محلات ابو نجمة، وكانت مثل «المولات» الموجودة الآن تجد فيها كل شيء، وهناك الإغريقي سرندة في محله بشارع البوستة، وبنيوتي ماماكوس من اشهر تجار كوستي، لكن من اشهر اغاريق كوستي الذي مازال يعيش في كوستي حتى الآن خواجة بيترو، وكان يملك مصنع كيتي كولا وشعار الشركة «وجه القط»، وكان يملك طاحونة معروفة باسم طاحونة بيترو، وتزوج من سودانية كانت أجمل نساء كوستي، وكان مدير الانتاج بمحلج كوستي إغريقي لكني الآن نسيت اسمه. ويؤكد شلقامي أن مدينة كوستي أفضل مكان تتعايش فيه الجاليات الاجنبية، والمدينة تختلف عن باقي مدن السودان، لذلك استقر فيها الجميع من اجانب وسكان محليين، ففي كوستي لا يوجد مثلا حي الدناقلة او الشايقية او غيرها من الصفات القبلية، وكشف شلقامي أن رئيس الجالية الهندية في كوستي واسمه ولبجي عندما توفي في الهند، اوصى بأن تحرق جثته في كوستي، واحضرت اسرتة جثمانة واحرق في مدينة كوستي. ومدينة الابيض اشتهرت بالاغاريق ومنهم نيكولا شمبانس وميخائيل بيتالديس ونيكولا انطوناكس المشهور بابو ديك، على ان اعظم اغريقي عاش بالابيض كان بنيوتي رابتلس، ويعتبر اول من صنع الجبنة المضفرة في حي كازقيل التي استمدت شهرتها بانها عاصمة الجبنة المضفرة في السودان. اما الخرطوم فكانت مركز الاغاريق، ومن ارباح تجارة الاغاريق بنيت المدارس والكنائس والمراكز الثقافية الاغريقية التي مازالت قائمة الى اليوم بشارع الجمهورية، واشهر اغريقي في الخرطوم كان رجل الاعمال والصناعة الخواجة جورج صاحب مصنع حجارة الطواحين، والذي كثيرا ما كنت التقي به مرسلا من اخي فتح الرحمن، وكان شديد الاعتزاز بسودانيته ومعجبا بقصص الالياذة والاوديسة، وكان كريما ومنفقا خيِّرا. ومن القصص الرائجة قصة الإغريقية التي توفيت عام 2006م وكانت قد رفضت الذهاب الى اثينا. وقالت «إنها عاشت في السودان وستدفن في السودان» .