٭ انزلاق الأوضاع في جنوب كردفان بالشكل الكارثي الذي اصاب الجميع بالذهول، ما كان له ان يحدث لو ان الاطراف صاحبة القرار في الامر، كانت على درجة من الحرص على استقرار المنطقة وسلامة مواطنيها، فكثير من العلامات كنات تؤشر الى امكانية حدوث هذه الحالة بسبب الخطاب التصعيدي للشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، والتعبئة السالبة للقواعد على أرض الواقع، بالشكل الذي جعل الحملة الانتخابية تأخذ شكل الحملة التعبوية للحرب اكثر منها أى شيء أخر، لذلك فالمسؤول الاول في ما يجري هو قيادتا الشريكين على اعلى المستويات وعلى المستوى الولائي. وظلت اصوات الحريصين تطلق نداءات متكررة بضرورة القيام بفعل يحمي المنطقة من الانزلاق لمربع الحرب دون ان تجد أية اذن صاغية لا من قيادة المؤتمر الوطني ولا من قيادة الحركة الشعبية، بل على العكس كان كل طرف يرتب حاله للعودة إلى هذا المربع دونما اكتراث لمن سيدفع الثمن. وبشكل سريع انتقلت الازمة بين الشريكين من صراع على نتيجة الانتخابات، ما بين الاعتراف بها وعدمه، الى صراع على شرعية وجود الجيش الشعبي وقانونيته، الى مغادرة المنطقة خارج خط 1/1/6591م، وهكذا التصريحات والردود عليها كانت تطلق جزافاً وبلا ضوابط أو اكتراث الى ما يمكن ينجم عنها من الطرفين، ودونما إكتراث الى ما هو مضمن في الاتفاقات والبرتوكولات والترتيبات، وكأنما المقصود هو البحث عن صدام بأي شكل من الأشكال. لذلك انزلقت الامور سريعاً الى هاوية الحرب التي اندلعت داخل المدن والاحياء، وفي الاسواق، وبين المواطنين العُزل الابرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في ما يدور بين شركاء نيفاشا من صراع حول المحاصصات السلطوية فقط، فالجهة التي بادرت بإشعال الحريق أياً كانت لم تسأل نفسها عن انعكاسات هذا الحريق على المواطنين وعلى المنطقة، من حيث جغرافيته ومدياته الزمنية، فضلاً عن آثاره النفسية على المجتمع. وعلى صعيد مؤسسة الرئاسة في الخرطوموجوبا فهى صاحبة الأمر والنهي في مثل هذه الظروف، ولكنها لم تفعل ما ينبغي فعله لسبب بسيط في تقديرنا، وهو أن هذه المؤسسة لا تتأثر مباشرة بما يحدث للمواطنين هناك، فلا الرئاسة في الخرطوم ولا في جوبا، لهما من الروابط والصلات بأهالي جنوب كردفان ما يجعلهما يتأثران بما يحدث لهم من موت او اصابات او ذعر او نزوح وتشرد أو غيره. ولو ان هذه الولاية تقع في نطاق أي من طرفي هذه المؤسسة، لكانت الاخيرة اكثر حرصاً على عدم حدوث ما يحدث. ٭ ومن حيث المبدأ فإن اية خسارة من اي طرف هى خسارة للبلد والمجتمع، وعدم الاستقرار يصيب مناحي الحياة كلها على صعيد المدارس والتجارة والزراعة وكل شيء، وهى فترة عاشتها ولاية جنوب كردفان لعشرين عاماً انتهت باتفاق سويسرا، ثم اتفاقية نيفاشا 5002م ولو أن فوهة البندقية تقود الى حلول للازمات لما كانت تلك الاتفاقات التي يخلص لها اطرافها، لأنها جاءت استجابة لضغوط وليس عن رغبة في السلام والاستقرار. وهناك على صعيد اتفاقية نيفاشا وبروتكول جنوب كردفان بشكل خاص بنود واضحة تتعلق بالترتيبات الامنية ووضعية القوات. وظلت هذه الجوانب مهملة ولم تتم معالجتها بالجدية التي تستحقها، علماً بأنها مثلت وتمثل مؤرقاً حقيقياً للحكومة والمواطنين في الولاية طيلة فترة الاتفاقية. وفي مرات عديدة شكلت المجموعات المسلحة التابعة للحركة الشعبية تحدياً لسلطة القانون وهيبة الدولة، بل وكانت بمثابة دولة داخل الدولة. ومع ذلك ظلت ممنوعة من الصرف ولم يناقش امرها على مستوى رئاسة الجمهورية او على مستوي لجان الامن الولائية بالشكل الذي يعالج وضعيتها بصورة حاسمة، وهذه المجموعات التي هى رصيد الحركة الشعبية تستخدمها كيفما ارادت كأدوات ضغط سياسي، تقابلها من جانب المؤتمر الوطني، المجموعات من منسوبي الدفاع الشعبي ايضاً. وفي الكثير من حالات التصعيد والتصعيد المضاد كان الشريكان يستخدمان هذه المجموعات في صراعاتهما العنيفة. أيضاً فشل الطرفان في تذويب أي احتقان بين وحدات القوات المشتركة، التي ظلت تعمل سوياً بروح الإخوة الاعداء، دون ان يفهم اي انسان ما هو سر الاحتفاظ بروح العداء لدى كل طرف، وهكذا كان سلام نيفاشا مجرد هدنة ينتظر أي طرف نهايتها على احر من الجمر، ليتمدد الاشتعال على طول الولاية وعرضها ابتداءً بعاصمتها، حيث غطى القتال الذي بدأ في منطقة البرام وام دورين وهيبان ودلامي وتالودي والدلنج، ولا يزال الوضع خارج السيطرة. ً٭ وخطورة ما يجري أن يتم سحبه على الخارطة الاجتماعية التي اصطبغت بالفرز السياسي في الانتخابات، حيث هناك امراء حرب ينشطون في مثل هذه المناخات من نوع اولئك الذين قاموا بنهب المحال التجارية في سوق مدينة كادقلي، وهناك مظاهر جديدة لم تكن مألوفة على صعيد المجتمع من قبل، مثل عمليات الاغتيالات السياسية وعمليات النهب، وعمليات حرب المدن واستخدام الطيران في المعارك، وإخلاء المدن وما الى ذلك، كل هذا لم يحدث حتى في اللحظات الصعيبة من الحرب السابقة، وهو أمر بالضرورة سوف يترك آثاره النفسية المدمرة على المجتمع بأسره، ويحتاج الى جهود كبيرة وأزمان طويلة لتجاوزه. ٭ والآن يتحول مقاتلو الحركة الشعبية الى مجموعات منتشرة في مناطق متفرقة من الولاية، على الرغم من وجود مناطق تمركز لهم على خلفية ما عُرف بالمناطق المحررة، وتصبح هذه المجموعات مصدراً لتقييد حركة المواطنين وعدم الاستقرار ما لم يتم ابتداع صيغة للوقف الفوري لما يجري واحتواء التصعيد. ٭ والمطلوب عاجلاً من مؤسسة الرئاسة شمالاً وجنوباً، أن تصدر قراراً فورياً يوقف الحرب والعمليات والتصعيد، وأن تبادر بأقصى سرعة ممكنة إلى منع تجدد أية اشتباكات أو توسيع نطاقها. وأيضاً احتواء اي مظهر من مظاهر التفلتات التي تقلق استقرار المواطنين، واتخاذ من الاجراءات ما يعمل على تطمينهم إلى إمكانية عودة الأمور الى سلام حقيقي. وبمقدور المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أن يتعاركا كما يشاءان، ولكن بعيداً عن المنطقة، لأن الذين دفعوا الثمن هم المواطنون من مختلف التكوينات، فأهل جنوب كردفان قادرون على تولي شؤونهم بأنفسهم، وهم قادرون على إدارتها بلا عنف أو عداوات.