لم أشارك فى مفاوضات السلام التى عقدت فى نيفاشا و انتجت البروتوكولات الست المعروفة باتفاقية السلام الشامل، لكن احد المشاركين حدثنى بأن الجلسة المخصصة لمناقشة قضية جبال النوبة ترأس الجانب الحكومى فيها د. مطرف صديق وبجانبه د. كبشور كوكو، وترأس وفد الحركة الشعبية ياسر سعيد عرمان وبجانبه ضابط من الحركة الشعبية من الدينكا. وهنا احتج أبناء جنوب كردفان فى وفد الحكومة بأنهم يريدون مفاوضة أبناء النوبة أهل قضية جنوب كردفان لا وكلائهم. ورد الطرف الآخر بأن مطرف صديق ليس من كرنقو عبد الله او ام دورين او كاودا. واحتدم الجدل طويلا حتى انتهى بحل توافقى ترأس بموجبه د. كبشور كوكو جانب وفد الحكومة، بينما ترأس وفد الحركة الشعبية د. أحمد عبد الرحمن سعيد. ورغم أن البعض نظر للحادثة كحادثة عابرة لا تعنى شيئا، إلا أنها اثارت اهتمام الكثيرين، وبررت مخاوفهم بأن مخرجات التفاوض ربما لا تلبي طموح اهل المنطقة الذين حملوا السلاح، اما فى صف الحركة الشعبية او فى الطرف الآخر داعمين للجيش الحكومى الذى يقاتل الحركة، فالقيادات القومية من خارج الولاية التى تُرك لها امر قيادة المفاوضات مهما كانت نزاهتها وحرصها، قد لا تملك ذات إحساس اهل الولاية، وربما ترضى بتلبية القليل من المطالب، وفعلا تم توقيع بروتكول حل النزاع فى جنوب كردفان الذى اعطى الولاية بعض المكاسب، لكنه لم يحقق كل تطلعات وآمال الذين حملوا السلاح، مما ولد احباطا جعل احد قيادات النوبة فى الحركة الشعبية هو تلفون كوكو ابو جلحة، يرفع عقيرته محتجاً بأن الحركة الشعبية فى الجنوب قد خدعت النوبة وباعتهم بثمن بخس فى سوق المصالح السياسية، وظل يرفع صوته فى كل المنابر المتاحة، الامر الذى كلفه حريته، كما كتب مكى بلايل ما سماه «سجال البشريات والتحديات فى اتفاقية نيفاشا» وهى مقالات صحفية متسلسلة نشرت فى «ألوان» عام 2006م، وبلغت سبع مقالات، وكتب كذلك فى جريدة «الصحافة» عن «مصير أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق في الجيش الشعبي في حالة الانفصال». وهى نبوءة مبكرة لمشكلات ما بعد الانفصال. ومنتديات أبناء الولاية وملتقياتهم كلها تدور حول امر واحد هو هل ما كسبته الولاية بالاتفاقية يساوى التضحيات التى قدمتها؟ هل قدر ابناء النوبة أن يفروا من تهميش المركز، ان صح، ليصبحوا مقطورة فى الجنوب ودروعاً بشرية لأية حروب قادمة؟ هل التفويض الذى منحه المرحوم الاب فليب غبوش باسم النوبة للدكتور جون قرن فى «مؤتمر كل النوبة» الذى عقد فى كاودا قبل وفاة الاخير، يظل هكذا شيكاً على بياض تكتب فيه الحركة الشعبية ما تشاء؟ الواقع أن الذي يعايش أبناء النوبة خاصة بعد استفتاء الجنوب الذى تقرر فيه انفصال الجنوب، يتبين له مدى الاحباط الذى يعيشه اعضاء الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة، وذلك دون شك هو نذر الأزمة الحالية. يقول الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا: «من يستسلم مهزوما فى ميدان المعركة سيعود للقتال متى ما سنحت الفرصة، لكن من يقتنع فى طاولة التفاوض لن يعود للقتال». وبالطبع ابناء النوبة لم يقتنعوا فى طاولة التفاوض، لأن القرار ببساطة كان عند الجنوبيين لا عندهم. ولئن استطاع الوفد الحكومى بحنكته وبراعته أن يحقق اتفاقاً باقل التزامات ممكنة، فإن هذا الاتفاق ظل على الدوام مهدداً بعدم الاستمرار، الأمر الذى جعل أحمد هارون متعاطفاً مع الحركة الشعبية جنوب كردفان لاقصى حد، وكريما جدا معهم للدرجة التى أثارت حفيظة بعض اعضاء حزبه الذين حذروه من وضع كل البيض فى سلة عبد العزيز الحلو. فى ابريل الماضى صحبت وزير الزراعة بجنوب كردفان فى زيارة الى الفولة لمعالجة مشكلة بعض الخريجين، فاعلمنى ان الوالى يملك ثمانين جراراً زراعياً مخصصة للمناطق المختارة، يمكن ان يخصص منها عشرين لجمعيات الخريجين الانتاجية. ومعروف ان المناطق المختارة هى مناطق الحركة الشعبية التى كانت دائما تجد معاملة خاصة من الوالى، وتميز تميزا ايجابياً من حكومته، وكل ذلك لم يمنع تمرد الحلو. وأحداث جنوب كردفان التى اعقبت الانتخابات، كل الدلائل تدل على أنها تخطيط محكم وقديم فيه استغلال لمخاوف مشروعة لمجموعة ظلت تواجه مصيراً غامضاً بعد انفصال الجنوب. وهى إنفاذ لمؤامرة ظلت تحبك منذ زمن طويل عبر عنها عبد العزيز آدم الحلو فى بيانه الذى أعلن فيه تمرده ونشر يوم 9يونيو ، قال عبد العزيز: «نحن نرفع شعار الشعب يريد إسقاط النظام لتحقيق التغير الجذرى فى المركز»، ثم اردف قائلا: «المشكلة ليست مشكلة وظائف او مشكلة ذات طبيعة يمكن معالجتها على مستوى ولاية جنوب كردفان، إنما نتاج للسياسات التى تُصنع فى الخرطوم وتُولد الحروب الاهلية والتفرقة وعدم الاستقرار». ويمضى عبد العزيز ليدعو للعصيان المدنى والاضرابات والتظاهرات، فهذا البيان الصادر عن عبد العزيز الذى نشر فى سودانيز اون لاين9/6، يكشف أن ما تم فى كادقلى هو ساعة صفر لانتفاضة كان عبد العزيز يحلم ان تنتظم البلاد كلها وتؤدى لاسقاط النظام، فالدمار للبنية التحتية والتقتيل الذى تم للأبرياء والتشريد الذى حدث للضعفاء والاطفال والنساء، والترويع الذى اصاب مواطن جنوب كردفان.. هو كله من أجل تحقيق مشروع السودان الجديد، وستكشف الأيام صدق ما نقول.. صحيح أننا متعاطفون مع جنود الحركة الشعبية خاصة من أبناء النوبة، الذين اما لقلة حنكة مفاوضيهم او ضعفهم، سلموا امرهم كله لقادتهم الجنوبيين الذين ركزوا همهم فى الانفصال غير مهتمين بحلفائهم النوبة. واليوم مضى الجنوبيون في سبيل حالهم، واهتموا بكسب الاعتراف لدولتهم الوليدة، تاركين أبناء النوبة العسكريين يفترسهم الوسواس من المصير المجهول. وهنا التقط شيوعيو الحركة القفاز لاستخدام هؤلاء لتحقيق مشروعهم لبناء السودان العلمانى الماركسى المعروف بالسودان الجديد، وتلك حيلة قديمة. يقول فرانسيس فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ» «إن احدث محاولة لإبقاء شكل من اشكال الماركسية على قيد الحياة، هو ما يسمى بنظرية التبعية dependncia» هو ما يطلق عليها الآن التهميش. قال الحلو فى كلمته لإعلان تمرده: «ندعو كل المهمشين والديمقراطيين للتضامن من أجل اسقاط النظام كل حسب الوسيلة المتاحة له». وانا ازعم كما زعم غيرى ان هذه النظرية ذات اثر ضار على استنهاض الهمم لزيادة الانتاج باعتباره وسيلة لاحداث التنمية. وفى مقال سابق اوردنا مقاطع من اجابات عبد العزيز الحلو على اسئلة طُرحت عليه اوردها موقع رماة الحدق،ركز فيها الحلو على الحقوق وتناسى الواجبات، ونعيد هنا هذه الاجابات للفائدة: موقع رماة الحدق: من الذى سيمول التعداد الثانى؟ القائد عبد العزيز: هذه مسؤولية حكومة السودان، لأن ذلك حق شرعى من حقوق سكان هذه الولاية بأن يتمتعوا باحصاء دقيق وشامل. رماة الحدق: لكن التعداد السابق كان بدعم من المجتمع الدولى وجهات خارجية لتكلفته العالية؟ القائد عبد العزيز: نحن غير معنيين بموارد او مصادر التمويل، ولكن بصفتنا مواطنين لدينا حقوق نعتقد انها من مسؤوليات الحكومة القومية. رماة الحدق: يعني التمويل لن يكون من ميزانية الولاية؟ القائد عبد العزيز: لا لا الولاية غير مسؤولة عن مثل هذه الاشياء، وهذا حق من حقوقنا يجب أن تفي به الحكومة القومية. هذه الاجابات تعطى انطباعاً بأن النظرية التى تهيمن على تفكير عبد العزيز، هى أن توزيع الثروة اهم من انتاجها، وانه سيسعى لتكوين جيش من الاتباع ذوى حقوق كاملة وواجبات منقوصة، وهو ما يصادم المفهوم الاسلامى الذى ينادى بضرورة التوازن بين الحقوق والواجبات «اعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه» «من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل»، ومثل ما نؤكد استنكارنا لاستخدام سلطات الدولة لخدمة المتنفذين السياسيين الذين اصبحوا طبقة قائمة بذاتها، فإننا نرفض كذلك استخدام سلطات الدولة لصالح الطبقة العاملة، دون حفز هؤلاء العاملين ليقوموا بواجبهم فى زيادة الانتاج والحصول على الامتيازات والحوافز من هذه الزيادة، وتلك هى جوهر نظرية العدالة الاجتماعية فى الإسلام. وواحدة من اهم اشراقات وزير المالية الحالى الاستاذ على محمود انه قيَّم اداء عدد كبير من شركات القطاع العام، وتخلص من الخاسر منها. وتمرد الحلو يهدف الى الاستيلاء على السلطة واستخدام اجهزة القهر التى تتوفر فى الدولة من اجل هدم النظام الاجتماعى القديم، وإقامة ما يسمى السودان الجديد، وهى نظرية لم تعد قابلة للتسويق فى عالم اليوم، ذلك أن الاصلاح عملية تراكمية تأتي فى ظل الحرية لا القهر. ولئن خسرت الولاية حالة السلام والاستقرار التى تحقق طيلة الفترة السابقة، وخسرت شراكة كانت نموذجية، وخسر المواطن فرصة ذهبية لاحداث تنمية حقيقية انتظمت كل نواحى الحياة، فإن عبد العزيز خسر هو الآخر كسبا سياسياً حققه فى الفترة السابقة، وجعل المؤتمر الوطنى يفوز بمنصب الوالى بشق الانفس وبفارق اقل من سبعة آلاف صوت، بل تفوقت الحركة الشعبية فى أصوات المرأة، ولكن تبقى الخسارة الكبرى هى ما يتهدد النسيج الاجتماعى الآن من تصدع، فالشقوق بدأت تبين فى الجدران وابناء النوبة الآن فى موقف لا يحسدون علية، فالمناطق التى تتعرض للقصف العنيف من قبل الجيش هي مناطق ذات كثافة نوبية عالية، وقطعا سيتعرض ابرياء فيها لنارين، نار الجيش التى يصعب عليها فى احيان كثيرة التفرقة بين البرئ والمذنب، ونار الحركة الشعبية التي تستخدمهم دروعاً بشرية. ولئن تحدث ابناؤهم الذين هم فى المناطق الآمنة وصفوا بالطابور الخامس، وبالطبع فى مثل هذه الاحوال يوجد طابور خامس وجواسيس، لكن كيف نميزهم من الابرياء، اما العناصر غير النوبية فى جنوب كردفان وخاصة الرعاة من البقارة والابالة، فهم فى حالة نفسية تجعلهم يشعرون بانهم آجلا او عاجلا سيصبحون هدفا لعدوان الحركة، وهم دون شك سيحاولون الدفاع عن أنفسهم، وقد يخطئون الهدف فيسقط ابرياء وتنحرف الحرب الى حرب اهلية، فتزيد الشقوق على الجدران الاجتماعية، ونحمد الله حتى الآن الحرب لم تنزلق الى هذا الى هذا المنحى، فالجيش مصر على القيام بواجبه فى حماية المواطن وتأمينه وحسم التمرد، وهذه هى وظيفته حسب الدستور، لكن تعقيدات الجغرافيا البشرية والسياسية فى جنوب كردفان تجعل خيار الحرب خيارا فاشلا وباهظ التكاليف وإن حقق نصرا زائفا. لذلك ندعو الحكومة إلى ألا تنجرف وراء حماقات الحلو وتبحث مع العقلاء من قيادات الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة للوصول الى تسوية تجنب بها جنوب كردفان مزيدا من الدمار، فنحن نعلم ان الحلو لن ينتصر ابدا فى هذه الحرب، لكن كما تقول العرب: «لأمر ما جدع قصير أنفه» هو يريد ان يجر السودان الى مواجهة جديدة مع المجتمع الدولى، وانا هنا ارى ان تمضى الدولة فى انفاذ التحول الديمقراطى، ولا تفكر ابدا فى تعليق الدستور، وسحب هارون وتعيين حاكم عسكرى. فهارون الآن حاكم منتخب للولاية، والبروتوكول يجب أن يمضي وتقوم المشورة الشعبية، وعلى قيادات الحركة الشعبية تحمل المسؤولية، وألا يمضوا فى طريق إبادة النوبة وتشريدهم. * مركز دراسات التماس