«1» ظلت الحيرة التي تنتاب «بركة» من حين إلى آخر، ظلت تتجدد أربع مرات في الشهر، بمعدل مرة في كل أسبوع في طريقة وسلوك زميله في السكن، فما أن تحين ليلة الخميس حتى ينتفض زميله «مبروك» خارجا من سريره، يعتدل في جلسته ويشرع في ترتيب حقيبته الجلدية بعناية فائقة. «2» في الصباح يحمل «مبروك» الحقيبة معه إلى مكان عمله، وقبل أن تنتهي ساعات العمل الرسمية بساعاتٍ طوال، يركض في الشوارع بحثا عن دابة تحمله جهة الميناء البري، عله يلحق ببص الساعة الثالثة، ليقله حيث زوجته التي تحتل مساحة بحجم الحنين إليه في ولاية أخرى غير ولاية الخرطوم التي يعمل بها. «3» تدريجيا تحولت الحيرة عند «بركة» إلى فضول، تساءل .. من أين يجلب «مبروك» جبالا من اللهفة لزوجة مضى عليها عشر سنوات منذ أن ارتضت أن تكون رفيقته في الحياة وإلى الأبد؟ وكيف يقتطع من راتبه الضئيل قيمة تذكرة البص منها وإليها ؟ «4» لملم تساؤلاته، وعزم أن يقلده. في ليلة شديدة السواد، لا نجم فيها ولا قمر هاتف زوجته. أحتارت الزوجة في اتصال زوجها «بركة» المفاجئ وغير المتفق عليه، لم يدعها تكمل دهشتها، بث لها مضمون قراره، وبأنه سيزورها ويزور أولاده نهاية الأسبوع المقبل. «5» تفوهت أم الأولاد في وجهه بشظايا كلامٍ كالسيخ الصديء، أخبرته بأن قرار السفر إليهم قرار أهوج، لا سيما أن ما ينفقه في هذه الزيارة يعادل اكثر من نصف راتبه، فقيمة التذكرة لوحدها تكفي لشراء سبعة أكياس من الأسمنت، وتكلفة العودة تساوي قيمة أنبوبة غاز جديدة وممتلئة، فلا داعي للتهور، ومن الأفضل له أن يوفر صحته وفلوسه ليوم أكثر سوادا من هذه الأيام آتٍ لا محالة. «6» استعطفها بالأولاد، وأنه ممدد في سهول غير منبسطة بسبب مرارة الفقد، وعليه أن يراهم بين فترة وأخرى حتى لا يغوصون أكثر في رمال الحرمان. ضحكت بسخرية كمن يحمل في يده آلة حاسبة لا تخطيء وقالت: حسابيا إذا حضرت وفق التكلفة المعلنة سيضحى ابنك الأكبر، ويترك المدرسة مقابل أن تحضر أنت، فالسفر والرسوم المدرسية خطان متوازيان لا يلتقيان في مسار حياتنا البائس. «7» أغلق السماعة متذمرا، اقترب من زميله «مبروك» منفجرا في وجهه بأسئلة حارقة : ما الفارق بيني وبينك يا «مبروك»؟، نفس المكان، ذات العمل، وذات الراتب، والزواج هو الزواج، فمن أين لك كل هذا الاندفاع والحيوية عندما تكون مقبلا لرهق السفر من أجل امرأة تشبه كل النساء. «8» التزم «مبروك» الصمت حتى حانت ليلة الخميس، تكور بجانب «بركة»، فتح الاسبيكر واتصل بزوجته، شرح لها بأنه لا يستطيع الحضور هذا الأسبوع. لم تمهله المدام، ردت بصوت هامس: إياك يا «مبروك» يا حبيبي تحسبها ماديا، حضورك بيننا هو المادي والروحي والمعنوي والإنساني وكل شيء، أرجوك لا تدع هاجس الخوف من بكرة يفسد عليك وعلينا سحر الانتماء. [email protected]