سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤتمر الوطني خيار العقلاء... ولكن...!
نشر في الصحافة يوم 19 - 03 - 2010

الوقوف على الحياد في المعركة الانتخابية القادمة - تحليلا او دعوة او تصويتا - لا ينبيء عن موقف وطني بقدر ما يشي (بالذبذبة) التي ذم بها القرآن المنافقين (مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء).. النساء (143) .. ولذا ان كنا قد جرينا في مقالنا السابق على دعوة لاتقاء الله في خيار الناخبين (الصحافة 2010/2/26م،) فإن الوقوف على مصطبة المتفرجين ولبس مسوح الوعاظ وحده لا يجدي خاصة وانه قد اتضحت الآن نوايا وافكار وامكانات الفعل لدى كل القوى السياسية او الافراد المستقلين. فلنطرح جانبا (عنتريات) دكتور نافع والمؤتمر الوطني (واحلام) ياسر عرمان والحركة الشعبية (وبلاغيات) الصادق المهدي وحزب الامة (وبكائيات) الميرغني وحاتم السر وحزبهما الاتحادي الديمقراطي (وحسرات) المؤتمر الشعبي (واوهام) المستقلين (وحيرة) نقد والحزب الشيوعي (وجمود) الدكاترة الذين دخلوا حلبة السياسة من بوابة قاعات المحاضرات الاكاديمية..!!
لنتجاوز كل هذه (المشاعر) التي لا تسندها حسابات السياسة ومنطق (القوي الامين) الذي يتطلبه حكم السودان في المرحلة القادمة، وتنظر (من النافذة) في وجوه القوى السياسية - المرشحة للمنافسة - علنا نكشف (المصائر) التي تنتظرنا اذا قدر لأي منها حكم السودان. فإن لم نجد من بينها (الفاضل) فلنبحث عن (المفضول) كما يقول علماء الاصول. وان لم نجد في اي منها (الخير المطلق) فلنبحث عن (الخير النسبي)، الذي تقول عنه الحكمة السودانية (خيار ام خير).. فمن هو - يا ترى - الحزب الذي يمكن ان يمثل (خيار العقلاء) قياسا على احد هذه الدرجات التي اشرنا إليها؟ وبداية اود ان اشير الي نقطة تبدو لي انها مهمة جدا في الخيار الانتخابي، تلك هي ان (الاستقرار السياسي) المطلوب الذي يستتبع (تلقائيا) استقرارا امنيا واقتصاديا واجتماعيا يتطلب ان يكون هناك (حزب اغلبية) برلمانية بالمجلسين (الوطني والولائي) واغلبية تنفيذية (ولائية) حتى لا تتجاذب السلطة احزاب متنافرة وشركاء متشاكسون فتنقضي دورة السنوات الاربع في لجاجة سياسية ونزاع سلطوي وحرب كلامية تُلهي الدولة عن مراعاة مصالح المواطنين وإحداث التنمية المطلوبة.
فلا نريد لتجربة السنوات الخمس الاخيرة - رغم وجود حزب غالب - ان تتكرر وربما بصورة اسوأ كثيرا حيث إن ميدان الصراع لن يقتصر علي اثنين وانما سيدخله لاعبون جدد ممن يقدر لهم الفوز من الاحزاب الاخرى سواء أعلى المستوى البرلماني التشريعي ام التنفيذي الولائي.! فإن مخاطر تعدد (مراكز القوى) في ظل غياب (مواثيق الشرف) او الاعتراف (بالثوابت) لا يجر البلاد إلا الى الهلاك والدمار وضياع مصالح المواطنين والصراع الذي لن يقف عند حدود الجدل السياسي خاصة وان البلاد لا تزال تئن من جراح دارفور وحركاتها المسلحة، والاضطراب الامني والخدمي بالجنوب الذي عجزت الحركة الشعبية عن ادارته ! والقلق الشرقي الذي هده الاستقطاب بين المؤتمرين الوطني والبجوي..!
كل هذا يقتضي من العقلاء ادراك (ضرورة) ان يكون على حكم البلاد (حزب غالب) تتوحد تحت سلطته الادارة التنفيذية والوجهة السياسية وتسهل محاسبته ومساءلته عن مصالح العباد من قِبَل (معارضة برلمانية) تحسن تحسس مصالح الناس والتعبير عنها والوقوف في وجه الانحراف. وإلا فالبلاد موعودة (بدويلات ولائية) يتقاسمها الولاة (المنتخبون) حسب مرتكزات ولائهم الحزبي، وحكومة اتحادية (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى). رغم قمة الهرم الرئاسي ، فالرئيس - مهما كانت مقدراته - لا يحكم البلاد وحده في ظل نظام تعددي، هذا المصير (القائم) يمكن لنا ان نتجنبه اذا وجهنا انفسنا تجاه قبلة سياسية واحدة نرضاها او نراها اكثر (تأهيلا واستعدادا) لحكم البلاد في المرحلة القادمة التي لا تحتمل التجريب والمجازفة.
فمن الاحزاب من رفع شعار (الامل والتغيير) وكتبوها حتى بالانجليزية Hope and change كالحركة الشعبية - ولكنهم لم يفصحوا لنا افصاحا بيناً في خطبهم ولقاءاتهم الصحفية عن (كيفية هذا التغيير) وفي اي اتجاه وما هي ضمانات ومحددات هذا الامل. فالامل بلا خطة ومنهج وحيثيات وثقة متبادلة بين الراعي والرعية هو مجرد (وهم) ، والتغيير من دون تحديد اتجاهه قد يكون (للأسوأ) ! فليس كل تغيير مطلوب! فما هو التغيير الذي يريدون إحداثه في النظام الاقتصادي - مثلا؟! هل ستغير الحركة سياسة التحرير والانفتاح رغم ارتباطها القوي بالغرب والمؤسسات الدولية التي تصر على رفع الدعم عن السلع الاساسية والخضوع لروشتة البنك الدولي؟ وكيف ستكون علاقة الحركة الحاكمة بالقوات المسلحة والشرطة القومية وهي التي ظلت تناصبها العداء والانتقاد (المر) حتى بعد اتفاقية السلام؟ وهل ستدمج قواتها الشرطية والعسكرية معها ام تظل تحتفظ بها (كمليشيات) رغم المخاطر التي ستدفع كل حزب لإنشاء مليشيا خاصة به؟! وكيف ستكون خطتها لحفظ الامن في الغرب والشرق والشمال؟! وما هو موقف الحركة من القوانين السارية ونظام الدولة العام رغم الرفض الشمالي العارم للحكم العلماني الذي تنادي به الحركة؟! وما هي سياسات الحركة لحل مشكلات التعليم والصحة وعطالة الخريجين والمياه والتنمية المتوازنة؟! وما هو منهجها في التجارة الخارجية وخلق اسواق جديدة وتحسين مستوى الصادر في ظل ميثاق منظمة التجارة العالمية التي ستوافق عليه قطعا؟! وما شكل علاقاتها الخارجية (المتوازنة) في المحيط العربي والافريقي والدولي في ظل الاستقطاب الحاد في المنطقة؟ وما موقف الحركة من قضايا الامة العربية والاسلامية في فلسطين والعراق وافغانستان، أتتخذ موقفا (معارضا) للسياسات الامريكية والغربية والاسرائيلية ام تقف في (الحياد) على خلاف الموقف الشعبي العام؟! وهل؟ وهل؟ عشرات الاسئلة التي تحتاج الى اجابات وسياسات ومواقف لم تُعرف حتى الآن اين تقف منها !! (فالغموض) لابد ان يثير (الشكوك) وهو ما يفرغ شعار (الامل والتغيير) من المضمون ولا يدفع إلا (الفوضويون) للتصويت لصالحه!!
اما حزب الامة ذو التاريخ العريق في (الفشل) السياسي فلا تكاد تلمح فيه روحا (تجديدية) لا في برامجه المطروحة او قياداته التقليدية بما يحمل الناخب على الثقة في اعادة الاحتكام اليه. ففي ظل سياسة التحرير والانفتاح القائمة التي من المستبعد ان يقوم الحزب بتغييرها كيف له ان يطرح خطة واقعية للتنمية المتوازنة اقتصاديا واجتماعيا او ان الحزب يكثر من (الحديث) عن النهوض بالريف وحل مشكلات الفقر والعطالة ونشر مظلة الخدمات الصحية والتعليمية ورفع مستوى الحياة المعيشية للاسر، ولكن كيف؟! صحيح ان حزب الامة متوقع منه - اذا ولي الامر - ان يبسط الحريات العامة والانفتاح السياسي وينشط الحراك السياسي والحزبي ويحسن العلاقات مع دول الجور والامتداد الافريقي والعربي والاسلامي! ولكن كيف سيكون شكل العلاقة مع الغرب الامريكي والاوربي وهما اللذان اجتمعا - تبعا للمتغيرات الدولية - لا يرضيان بأقل من (الخضوع) لسياستهما الدولية والتضييق على الحركات الجهادية والاسلامية في العراق وفلسلطين وجنوب لبنان وافغانستان وغيرها باسم (الحرب على الارهاب)؟ فهل يملك حزب الامة القدرة على الخروج عن بيت الطاعة هذا والوقوف في وجه الاستكبار الدولي رغم ميراثه الجهادي؟! وما هي (الموازنة) الجديدة التي يطرحها الحزب بين (انفتاح الحريات) و(الانضباط الامني) بعد ان اثبتت تجارب حكمه السابق العجز الذي كاد يصل بالسودان الى الفوضى الجزئية والامنية ؟! ان ملامح حزب الامة عام 1989م، هي ذات ملامحه عام 2010م، الا من بعض التجاعيد والبثور التي اصابته بحكم الشيخوخة وامراض الانشقاقات التي انهكت جسمه فلم يعد قادرا على مجاراة الايقاع السياسي السريع الذي تتسم به بدايات القرن الواحد والعشرين..!
وهي حالة اشبه بحالة (ابن دفعته) ونديده بل وصديقه (اللدود) الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي لا يزال يتدثر بجبة اهل البيت الميرغني!! والذي لا يزال هو الآخر يبحث عن الوحدة (المفقودة) دون ان يطرح على الناخبين رؤى وسياسات (جديدة) يتجاوز بها الحديث عن تحرير السودان ورفع العلم! إذ اننا - كناخبين - نتساءل عن السياسات الاقتصادية البديلة عن (الصفقات التجارية) التي اشتهر بها تاريخ الحزب! فما الذي يطرحه لحل مشكلات الزراعة والصناعة والثروة الحيوانية والتنمية المتوازنة لكل انحاء السودان؟! فالحزب - بحكم قاعدته التجارية - ظل اسير سياسات الصادر من الحبوب الزيتية والكركدي والصمغ والثروة الحيوانية وامثالها من المنتجات التقليدية (الخام) فما هي خطته القادمة لتوسيع مواعينها (رأسيا) بتحويلها من شكلها (الخام) الى شكلها (المصنع) او شبه المصنع، وما هي خطته (لاستحداث) مشروعات انتاجية اكثر تطورا كالصناعات الهندسية والتحويلية والتعدينية ؟! وكيف يعالج الحزب (الهواجس) الامنية شرقا و غربا وجنوبا بتطوير القدرات العسكرية والشرطية والعدلية؟! اضافة الى التنمية الاجتماعية؟ وهو كرديفه حزب الامة سيفتح ابواب الحريات العامة ويفعّل الحراك السياسي ويقيم علاقات (متصالحة) مع المحيط الافريقي والعربي (ومتذبذبة) مع المحيط الدولي - الغربي تحديدا - فهو من ماسكي العصا من الوسط!
ولكن السودان في المرحلة القادمة التي ستتسم بالصراع الدولي (العنيف) يحتاج الى المرونة في القضايا (التنموية) والشدة في القضايا (الامنية) والثبات في القضايا (الدولية) والحكمة في القضايا (الداخلية) . فأي من هذه القوى هي التي يمتلكها الحزب الاتحادي الديمقراطي؟! واين (الكوادر) و(الرؤى)..؟!
اما المؤتمر الشعبي - الذي خرج من عباءة المؤتمر الوطني الكبير - فلا تزال تتملكه حمى الانتقام من التلامذة الذين اجرموا كثيرا في حقه وحق الحركة الاسلامية عموما.. ونزعة الانتقام اذا تملكت الانسان عطلت كل مقدراته وبددت طاقاته في الصراع والبحث عن عيوب الآخرين بدلا من ان يصرفها في التخطيط للمستقبل والبحث عن حل لازمات البلاد والعباد. صحيح ان المؤتمر الشعبي يملك (الكوادر) القادرة على احداث التغيير، ويملك وضوح الرؤية، ولكنه عطل كل هذه القوى عن الانتاج والاصلاح ووجهها نحو الصدام حتى صار (كل مشروعه) المطروح هو القضاء على دولة المؤتمر الوطني ولا نقول (الانقاذ) لأنه كان جزءا منها، وهي روح لا تؤهله قطعا لحكم السودان في المرحلة المقبلة رغم انه (بكوادره ورؤاه) من اكثر الاحزاب مقدرة على وضع معالجات لمشكلات الامن والخدمات والعدالة الاجتماعية والضبط القانوني، ولكنه (يبخل) بتوظيف قدراته هذه لطرح مشروعات (نافعة)!! فلا مصلحة للشعب السوداني في صراع الحياة والموت الذي يديره في مواجهة المؤتمر الوطني!
ولا يتبقى امامنا من الاحزاب المطروحة للمنافسة في الانتخابات - كما يرى المحللون - الا المؤتمر الوطني صاحب الحظ الاوفر في (رئاسة الجمهورية) والاقل توفرا في (الولائية والتشريعية). وفي شأن هذا الحزب لا نقول (بالاماني) وانما نتحدث (بالوقائع).. التي ظل يحدثها على الارض طوال خمسة عشر عاما (منفردا) وخمسة اخرى (بالشراكة) فما الذي يرشحه للفوز بالانتخابات القادمة لاربع سنوات اخرى؟! ان الواقع - الذي لا يمكن تجاهله - يقول ان المؤتمر الوطني قد احدث تغييرا جذريا في كل القطاعات الخدمية والانتاجية والتنموية والاجتماعية، وأهمها - في تقديري - شكل العلاقة بين المواطن والدولة! فالمواطن قديما لم تكن له علاقة مباشرة بأهل السلطة والحكام الا في حالتين:
اولاهما عند تقديم طلب للتصديق له بمرفق خدمي تجاري او سكني! وثانيتهما عند موسم الانتخابات البرلمانية حيث ينزل الوزير او الرئيس من برجه العاجي ليقابل (بل ويصافح) عامة المواطنين. ولكن الانقاذ احدثت انقلابا في شكل هذه العلاقة بابتكار المؤتمرات الحوارية في الشأن العام وبإنشاء اللجان الشعبية بمستوياتها الاربعة وباللقاءات الجماهيرية والزيارات الميدانية التي لم تتوقف طوال العشرين عاما الماضية، بل صار المواطن شريكا في السلطة من خلال المجالس التشريعية والولائية والاتحادية، وشريكا في الخدمات بالعمل الطوعي والمساهمة في بناء المدارس والمستشفيات ومراكز الخدمات تحت شعار (المجتمع المتقدم على الدولة). وهذا ما يحتسب ايجابا في تطور العلاقات السياسية. ثم ان الانقاذ اتجهت الى المشروعات الاستراتيجية في الري والطاقة - رغم كلفتها العالية - والطرق القارية بعد ان كانت محصورة داخل المدن الرئيسة، ولا تكاد تخطيء عيون العقلاء - الذين ينظرون الى ما حدث لا الى من يحدثه - النقلة (النوعية والكمية) الكبرى في الخدمات التعليمية والصحية والاتصالية! تلك انجازات تحسب للمؤتمر الوطني (في كلياتها) ولكنها لا تخلو (في تفاصيلها) من بعض وجوه (الاخفاق) التي صاحبت الاستعجال وتقديم (الكم) على (الكيف)! فالانتشار الخدمي - صحة وتعليما مثلا - لم يصاحبه (تركيز) يرفع مستوى المُخرج التعليمي فأصبحت الجامعات تخرّج الآلاف من (انصاف الاكاديميين) ، بينما تركزت خدمات الصحة (المتطورة) في الخرطوم تحديدا فيما لا تزال مستشفيات الولايات تعاني التدهور البيئي والعلاجي!! والتعليم الاساسي الذي انتشر بحكم سياسة (تعميم التعليم) وصل الى آلاف القرى التي لم تعرف يوما شكل المدارس. ولكن تُرك امر انشائها وتمويلها والصرف على معلميها الى (المحليات) ذات الموارد العاجزة حتى عن سداد مرتبات المعلمين!! فأصبحت المدارس تحت رحمة (الجهد الشعبي) الذي تتفاوت مقدراته بين قرية واخرى! ولذا صارت المدارس - رغم كثرتها - اشبه (بمحاضن التفريخ) التي لا تنمي القدرات ولا تصقل المواهب ولا تتجاوز حدود (التلقين الاكاديمي) الجاف! وما هكذا يكون التعليم ولا هكذا تكون التربية!
والانقاذ سعت (وبجد) لإحداث نهضة صناعية بعد توفر الطاقة ظهرت بعض مخرجاتها في السوق المحلي كالسكر والحديد والاسمنت والعربات والصناعات الغذائية والتحويلية وغيرها، ولكن انطفأت (بالمقابل) صناعات كانت وليدة ومبشرة كالنسيج والملابس الجاهزة والاحذية والعطور والتي حلت محلها البدائل المستوردة حتى فاض بها السوق عن حاجة الاستهلاك الفعلية..!!
ان هناك (خروقا) في ثوب المؤتمر الوطني ولكنها لا تستعصى على (الرتق) حيث يمكن ان نجملها في اخطاء السياسات الثلاث: اولها (احتكار) السلطة التنفيذية التي كان من الممكن ان تشرك فيها عددا من اصحاب المؤهلات (الادارية والفنية) العالية ممن هم خارج دائرة (الولاء الحزبي) ولكنهم داخل دائرة (الولاء الوطني)! فالبلاد تحتاج الى (جهد) التكنوقراط اكثر من (اجتهاد) السياسيين في العمل التنفيذي، وكل سوداني مستحق للموقع المعين بحكم الكفاءة العلمية والادارية ما دام منضبطا بالقوانين واللوائح والسياسات العامة. اما الخطأ الثاني فهو في الصرف (المالي والوقتي) على العمل السياسي اكثر من الصرف على الخدمي والانتاجي! فقد جعلت الدولة - خاصة بالمحليات والولايات - الاولوية لقيام المؤتمرات واللقاءات الجماهيرية والمؤسسات السياسية على حساب الخدمات الاساسية وحقوق العاملين!
اما ثالثة الاثافي فهي تقديم (الكم على الكيف) والانتشار (الافقي) على حساب التركيز (الرأسي) في قطاع الخدمات، فلقد كان الافضل انشاء عشرين جامعة (فقط) ذات تأهيل بيئي ممتاز وكوادر علمية عالية ومدرجات ومعامل ومكتبات وضبط اداري واكاديمي يحافظ على مستوى الجامعة العلمي والادبي وبعدد من الطلاب يتناسب مع امكانات المؤسسة بديلا عن عشرات الآلاف من الطلاب وحفنة غير مكتملة التأهيل من الاساتذة ونقص في القاعات والمعامل والمكتبات لخمسين جامعة!! وقل مثل ذلك في التعليم العام. ذلك لأن التعليم بالذات لا يحتاج الى (ثورة) - فهذا مصطلح غير دقيق - ولكنه يحتاج الى (خطة) بطيئة ولكنها محسوبة النتائج والاهداف.. فالتخريج الجامعي لا يحسب بعدد (السمسترات) وكثرة المتخرجين، وانما بحجم الكسب العلمي والتأهيلي الذي يحوزه المتخرج.
تلك اخطاء ولكنها ليست قاتلة، وهي - على علاتها لم تُسبق اليها الانقاذ وتشكل (الاساس) القابل للاصلاح والتطوير ما يسهل تلافيه في المرحلة القادمة. والانتقال بالسياسات من مرحلة الانتشار الكمي - التي اكتملت - الى مرحلة (التركيز الكيفي) المطلوب، خاصة وان تقليل الصرف على العمل السياسي في المرحلة القادمة - والذي سيكون من مسؤوليات الاحزاب لا الدولة - سيوجه الموارد لاستكمال مشروعات البنيات الاساسية والخطط الاستراتيجية التي كان قد بدأ فيها العمل فعلا. ان مشروع (تفريغ) الخرطوم يجب ان يسير في اتجاه تنمية الولايات وذلك بنقل كل الصناعات الى مواطن المواد الخام. فتنقل كل صناعات الزيوت - مثلا - الى كردفان والقضارف، والمدابغ والصناعات الجلدية الى دارفور وصناعات العصائر الى الشمالية والنسيج الى الجزيرة وجنوب كردفان مواطن زراعة القطن وهكذا تساهم في احداث التنمية بالريف وفتح فرص العمالة لابنائه وتقلل من الضغط السكاني على الخرطوم، اسوة بما هو حادث لمصانع السكر بولاية النيل الابيض.
ان الانقاذ تحتاج الى قرارات (شجاعة) في توزيع المشروعات الزراعية والصناعية والخدمات الصحية والتعليمية على كل ولايات السودان اذا ارادت ان تُحدث التنمية المتوازنة والعادلة. ان حركة التغيير التي بدأتها الانقاذ طوال سنوات حكمها لا يستطيع استكمالها الا المؤتمر الوطني، فقد قطع فيها شوطا بعيدا، ولكن بشرط وجود الارادة السياسية الكافية لرتق الخروق الكثيرة في جلبابه الذي ظل يلبسه طوال العقدين الاخيرين، مع الاعتراف بحق الآخرين في (بيان) مواضع تلك الخروق. والتساوي امام القانون وتقديم الكفاءة العلمية على الولاء الحزبي. لهذا نقول بأن المؤتمر الوطني هو خيار العقلاء .. ولكن..!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.