بعض أفذاذ الإدارة الأهلية (علي السنوسي) ناظر التعايشة... (عيسى دبكة) ناظر الهبانية.. (خوَّاف الشناهي) مدخل:- أزرق عينك شرارة.. تَخَشْ الحارة. وتطفي ناره.. ما بتهمك (الإدارة) (غناء شعبي) (1) يواصل الأستاذ اسماعيل محمد بخيت دراسته الشيقة: «مجتمع جنوب دارفور يتحلى ويعيش أسمى القيم الانسانية من التكاتف والتآزر والتعاون من أجل الجميع: الشجاعة، الفروسية، النجدة، المروءة وهي صفات مألوفة ولا عيب فيها إلاَّ التعصب الأعمى للقبيلة. وفي قمة هذا المجتمع كان هناك (نظار) و(عمد) و(شراتي) و(مشايخ) و(سلاطين) يجسدون هذه القيم وليتني استطعت أن أتحدث عن كل منهم وأوفيه حقه ولكن ذلك أمر قد يطول ويكفي ان أذكر بعضاً منهم كنموذج وتتدافع إليَّ في هذا المجال صورة ذلك الفارس المغوار.. ٭ (علي السنوسي): وهو (ناظر التعايشة) عليه رحمة الله - صبوح الوجه كث اللحية - نحيل الجسم ويصح أن تقول انه عظام مكسوة بجلد، مُكحل العينين وسمعه تقيل وأسنانه بيضاء، كاملة وقد تجاوز المائة بخمس سنين حين عرفته لأول مرة يثب على ظهور الخيل وثباً دون ركاب ويطلق لها العنان لتطير به مشهراً سيفه وملوحاً به.. كيف لا.. وهو امير التعايشة في (المهدية) وقائد احدى الكتائب في جيش المهدي التي التحمت بالجيش القادم لانقاذ (غردون) من الحصار في واقعة (أبو طليح) وظل محتفظاً بامارة التعايشة (طول مدة المهدية) ومن بعدها زعيماً لهم في (سلطنة علي دينار) ثم ناظراً للتعايشة طيلة (الحكم الثنائي) واحتفظ بمركزه ابان (الاستقلال) إلى أن توفاه الله - تغمده بواسع رحمته ورضوانه - وكان لا يخفى اعجابه بي ولكن الذي لا يرضيه مني ويتحسر عليه هو انتمائي (للجلابة) ويعملون تجاراً في دارفور، يجلبون لها البضائع وأغلبهم من قبائل الجعليين والدناقلة وأسوأ هؤلاء (عنده) هم الذين تحمل وجوههم (شلوخاً) - «جلابي وجهه مشخبط»!! فهم في نظرهم (أخس) و(أرخص) القبائل - يكسبون عيشهم (بالدهنسة) و(بالغش) أحياناً ولا يعرفون (الطعان)، (النزال) ولا يمارسون أي من ضروب الفروسية كركوب الخيل، وكان عمي (الناظر علي السنوسي) كثيراً ما فزعني بقوله «خصارتك يا سماعين.. جلابي» ولما كثر عليَّ هذا التقريع وضقت به ذرعاً.. قلت له.. يا عم علي ماذا تعيب على (الجلابة) فرد عليَّ - الجلابة؟ كلهم عيب وهم هوان ورخص القبايل.. فقلت له: يا عم علي.. هل أنت (أنصاري).. فاستنكر سؤالي قائلاً: كيف الكلام (دي) أنصاري أكبر مني (منو) واستطرد مؤكداً: أنا (المهدي) ذاتو.. ربط لي (الراية).. فقلت له ألا تعرف أن المهدي (جلابي) وجهه (مشخبط) وحاكم فذهل واسقط في يده -فانها حقيقة لم يعرفها قبل ذلك ولما استرد تفكيره قال: - ها اسماعين.. انقرع... - قلت له: انقرع أنت يا عم علي - فرد في ضيق ظاهر: أنا انقرعت.. الجلابة سيادنا. ومن بعده لم يتفوه بما تعود أن يلقاني به وظلت مودتي معه وثقتي فيه على أتمها: ألا رحم الله (علي السنوسي) فكم كنت أجله وأقدره لما جُبل عليه من صراحة ووضوح واخلاص في القصد وتمسكاً بالقيم والتقاليد التي نشأ عليها. (2) (عيسى دبكة) - ناظر البني هلبة.. وصراع مع (الباحش) - إلى عهد قريب كان كثير من الرجال في ارجاء السودان المختلفة يلبسون سكيناً في الذراع الأيسر لاستعمالها في شتى الاغراض ومن بينها الدفاع عن (النفس) وكذلك الحال في دارفور وجنوبها. وفي احدى (العصريات) خر (عيسى دبك)، (ناظر بني هلبة) ليتمشى حول قريتهم (عد الغنم) سابقاً وعد الفرسان حالياً، فقابل بعض النسوة في طريقه فقلن له، على غير العادة: - شقيش.. يالناظر (أي إلى جهة تتجه) فذكر لهن وجهته فقلن له: صُدْ بي دربك .. وأوضحن له انهن قد عدن ادراجهن لأن (الباحش) رابط الدرب!! فشكرهن وعلق قائلاً: الرجعكم أنتن.. ما برجعني أنا ولعله قد خشى أن تتحدث النساء في (الفريق) أنهن قد صددنه عن وجهته مخافة وجود (الدود أو الباحش).. ومضى في سبيله مصراً على مواجهة (الأسد).. عند اللقاء قدم (الباحش) احدى ذراعيه وفي ذات الوقت تمكن من تسديد عدة طعانات له حتى أرداه قتيلاً وعاد بذراع كاد أن يفقده لولا رباطة جأشه وشجاعته وخفته ومهارته في توجيه الطعنات في (المقَاتِل)!! ولقد يذكر ذلك بقول الشاعر الجاهلي: أفاطِم لو شهدت (ببطن خيت) وقد لاقى (الهزبر) أخاك يبشرا اذن لرأيت (ليثاً) لاقى (ليثاً) (هزبراً) أغلباً لاقى هزبرا فقلت: أنت تطلب للأشبال (قوتاً) وأطلب لابنة الأعمام مهرا (3) خوَّاف الشناهي ليتني استطعت أن أتحدث عن النظار والعمد ورجالات القبائل الذين عشت معهم في جنوب دارفور - فكلهم يستحق أن يتحدث عنه وأن تدون سيرته (ولعلي أستطيع ذلك في مستقبل الأيام) - ولكني لا أستطيع ولو في هذه العجالة الا أذكر (خواف الشناهي) أي الذي تخافه (الدواهي) وكان رئيساً لمحكمة المدينة (بدار الهبانية) ويُقسم أهله ويقرهم على ذلك كثيرون غيرهم بأنه قد قتل بمفرده ودون معاونة أحد و(بالحربة فقط) - أكثر من مائة فيل.. كان يهاجم الفيل الذي يحاول أن يطويه (بخرطومه) - وفي اثناء رفع (الفيل) لخرطومه وفي سرعة خاطفة يسدد له (خوَّاف) طعنة في حنجرته ونسميها في الدارجية بالذمة ولا يمكن الوصول لهذا (الموضع) ما لم يرفع (الفيل) خرطومه وهي المكان (الوحيد) الذي يمكن طعنه في جسد الفيل. ولا يستطيع الكثير من أنواع الرصاص اختراق جلده الغليظ (الذي تصنع منه أقوى وأجود أنواع الدرق) - وعندما تصيب (الحربة) الفيل - فانه لا ينقصها بل يحاول أن يزيلها بخرطومه فينزل عليها بثقل رأسه فتوغل الحربة في جسمه وتصيب منه المقتل فيخر على الأرض وهنا يجهز عليه (خوَّاف). قابلت (خوَّاف) وقد تجاوز الثمانين من العمر والذي قضى جزءاً غير يسير منه في المهدية، كان في أوج القوة، وصافحني بحرارة - فشعرت بالهزة في أخمص قدميّ - كانوا يجلونه ويكرونه فاذا حضر ساحة النقارة (ولا أقول الرقص) فان الحكَّامة أو المغنية ومحرك (الحلقة) توقف ما كانت عليه (وتزغرد) وتغني ببطولات (خوَّاف) وهي مشهورة وشائعة وتغني له حتى ينصرف.. وكان رجلاً ريفاً فلا يطيل البقاء في الساحة هكذا كانوا يشيدون بالبطولة والفروسية ويتغنون بأمجادها ويحتفون بأبطالها.. (4) رفع علم السودان.. في نيالا (1956) عشت بين هذه القبائل أكثر من خمس سنوات، سافرنا سوياً ونزلنا سوياً وحضرت مجالس الصلح وفض المشاكل العشائرية وطعمت معهم وتحدثت لهجتهم وتوليت أمرهم (مفتشاً) لجنوب دارفور بعد انتهاء الحكم الثنائي وبحضورهم رفعت علم البلاد بعد انزال علمي الحكم الثنائي وسط تهليلهم وتكبيرهم وأدينا صلاة الشكر بعدها في مسجد نيالا الكبير حيث (أمّنا) الشيخ (الربيع). كان الحكم الثنائي (يعمل) ألف حساب لمركز جنوب دارفور فهو يضم عدداً من أكبر القبائل بالسودان وأغلبيتهم الساحقة من (الانصار) الذين يؤمنون بالمهدية ايماناً لا مزيد عليه لمستزيد وهم أغنياء بما يملكون من انعام وأغنام وخيل وبما حبا الله بلادهم خصب وجمال: كان مركز جنوب دارفور أحد الثلاثة مراكز التي لا يتم اعلان شاغليها إلا بعد موافقة الحاكم العام - وهي محافظة بورتسودان ومعتمدية دار مساليت (الجنينة)، ومركز جنوب دارفور وكان المركز الوحيد الذي يملك نسخة من الشفرة السرية «النسخة العاشرة» والمصرح له بالاتصال بالخرطوم مباشرة من غير طريق المدير ان كان الامر يستوجب ذلك. أحببت تلك القبائل أفراداً وجماعات ورؤساء وكان يثقون بي ثقة كاملة ومن فرط اعزازهم لي كانوا ينادون العاملين معي من الاداريين والضباط بألقاب السعادة والجناب وينادونني باسم أبي مجرداً من أي لقب: «ود حبَّة» ويحذرون بعض العاملين معي بقولهم: سعادتك الكلام دا.. أنا بوصله لي ود حبة، وكان ذلك مصدراً لسروري وكل الذي كنت احتاجه هو شعرة بيضاء واحدة (شيبة) أزين بها مفرقي وسط هذه اللحي البيضاء الكثة، فلم أحظ بها حتى غادرت المركز ولما جاء الامر بنقلي مترقياً لأكون مديراً للانشاء والتعمير بوزارة المالية جاءني جماعة منهم معربين عن أسفهم وسخطهم لايفاد جماعة منهم لمقابلة السيد عبد الله خليل واقناعه بتعديل هذا النقل والا سيكون لهم منه موقف قد لا تحمد عقباه. وجدتني في موقف لا أحسد عليه ازاء هذا التهديد الواضح للسلطة المركزية فبذلت اقسى ما أملك من جهد لاقناعهم بالعدول عما ينوون واني في الموقع الجديد قد أقدم لهم خدمات قد لا استطيعها في موقعي الحالي واستطعت بحمد الله أن أفي بالكثير مما وعدت. نواصل في الأسبوع القادم إن شاء الله.. توثيق مطول عن الرجل الهزبر زعيم الرزيقات.. إبراهيم موسى مادبو..