فى مسرح السياسة السودانية ، ظل السودانيون يسألون ، كلما حاصرتهم قوى المعارضة ودعتهم للخروج إلى الشارع للإطاحة بنظام الإنقاذ الشمولى ، ولكن ماهو البديل لهذه الطغمة الحاكمة ؟ وفى حقيقة الأمر فالسؤال يشرح المأزق السياسى الذى وجد الشعب السودانى نفسه يعيش فيه ، فالإنقاذ بكل مساوئ تجربتها فى الحكم نجحت فى تحييد المواطن وجعلته لا يكترث إن هى ذهبت أو بقيت فى السلطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولذا فإنها تلت وتعجن كما شاءت فهى فى مأمن من الهبات والغضبات الشعبية للدرجة التى صرح فيها أكثر من مسئول إنقاذى بأن تنظيمهم سيسلم السلطة للمسيح عيسى حالما ينزل من السماء ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً ، ومن لديه مظلمة فلينتظر مجئ المسيح أو فليرفع ظلامته إلى آخر مراحل الإقتضاء عند الله سبحانه وتعالى يوم التغابن يوم يقف الناس أجمعين أمام رب العالمين ، حكومة وشعباً ، ليحكم بينهم فيما اشتجروا فيه . لكن إذا تجاوزنا ما يبدو للعيان من قدرة للحكومة فى تحييد الشارع السياسي ، فإن واقع المعارضة السودانية المأزوم يجيب على السؤال الذى يتركز حول البديل لنظام فعل كل ما وسعه من أجل الإطاحة به ولكن لا أحد يفعل ذلك ، لنجزم أن بقاء الحكومة فى سدة السلطة إلى اليوم وربما إلى يوم يُنفخ فى الصور سببه هو ضعف المعارضة وبنيتها الهشة ونفسيتها المتضعضعة ، وهى أمور وعيوب ظاهرةً للعيان ، فضعف المعارضة وإفتقارها لكل ما يُزين قامة المعارضات الفاعلة هى السبب ، فلا يُعقل أن تتحدث هذه المعارضة عن الديمقراطية والتداول السلمى للسلطة ورؤساء الأحزاب الرئيسية وصاحبة الثقل الجماهيرى يظل رئيس الحزب فيها باقياً فى رئاسة الحزب لمدة خمسين عاماً وكأن فى هذه الأحزاب لايوجد من يستطيع ملء موقع الرئاسة فى الحزب أو كأن الرئيس الخالد فى موقعه محصن ضد العجز وكل ما يجرى على الإنسان من سننٍ ونواميس الكون ، دع عنك نواميس الديمقراطية وسننها التى تقول بتداول السلطة فى الأطر التنظيمية والتى بدورها تُمثل الضامن للتبادل السلمى للسلطة على مستوى القطر عندما تدول دائلة السلطة لها، فكيف لفاقد الشئ أن يُعطيه ؟ بل إن الأحزاب السياسية وخاصةً تلك التقليدية لم تكن بريئةً أيضاً من كثيرٍ من الخصال السيئة التى يظل يُعانى منها منسوبو الهامش داخل تلك الأحزاب من إقصاء وتهميش فى إتخاذ القرار حتى أصبح دورهم ليس أكثر من جوقة لا ترى إلا ما يرى مالكو الأحزاب وللأسف الطريقة التى تُدار بها الأحزاب التقليدية لا تخرج عن مفاهيم الملكية الفردية فى شئ أو هكذا أثبتت السنوات الطويلة من الممارسة الحزبية فى السودان ، ودليلنا على ذلك أن لا أحد من أعضاء هذه الأحزاب الرئيسية الذين ينحدرون من الهامش يستطيع أن يكون رئيساً للحزب ، مهما كان مستوى تأهيله ، حتى يلج الجمل فى سُم الخياط ، ولا نبالغ إن قلنا إن الفرص التى وجدها أبناء الهامش فى ظل حكم الأنظمة الدكتاتورية أكبر وأكثر عديداً من تلك التى أفردتها لهم الأحزاب أيام حكمها فى ماعُرف بعهد الديمقراطيات ، وهى حقيقة مريرة فى حلوقنا لجهة كوننا ضد أى نظامٍ دكتاتوري مهما كانت درجة أفضليته على تلك الأحزاب التى ظلت تنادى بتبنى الديمقراطية كنهج سليم لإدارة البلاد ولكن سقوط الأحزاب المدوى فى هذا المجال يجعلنا نصدع بمثل هذه الحقيقة الأليمة ، بل نجزم أن الحركات المسلحة ، غرباً وشرقاً ، لولا ضيق مواعين الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على إستيعاب قضايا الهامش وطموحات أهله وأحلامهم ، لم ما امتشقت السلاح وجابت الفيافى والقفار ، فمعظم قيادات هذه الحركات المسلحة كانت تنضوى تحت هذه الأحزاب ولما يئست من حل قضاياها عبرها آثرت طريق حمل السلاح المحفوف بالمخاطر والتضحيات الجسام . العالمون ببواطن وموجبات نجاح نظم الحكم فى أى بلدٍ من البلاد ، يدركون جيداً أن المعارضة الهادفة والمُدركة لدورها القومى ،إدراكاً لايُخالطة شائبة من شوائب السياسة السالبة ويتمخض عنها من سلوك أنانى محض ، ترفد الأمة نظاماً للحكم أكثر رشداً ، ولكن كيف يمكن أن تكون المعارضة راشدة وهادفة والأحزاب التى ، تُسمى جوراً بأحزاب المعارضة ، لاتستنكف التحلق والدوران حول مضارب الحكومات الدكتاتورية وإختلاس النظر إلى موائدها والطمع فى الحصول على ما فيها حتى ولو كان فتاتاً ، ولذا لم تجد الأنظمة الدكتاتورية التى حكمت السودان صعوبةً فى تفهم ضعف المعارضة السودانية تجاه هكذا موائد فأصبحت تدعوها إلى القصعة التى تعشقها ولكن بمقدار ، بمعنى أن الحكومة يمكنها أن تطرد الحزب المعارض حتى قبل أن يزدرد شيئاً مما هو أمامه والحزب المطرود لا يذهب بعيداً بل يظل يدور بالقرب من «صيوان « الحكومة الشمولية ينتظر دعوته مرةً اخرى حتى ولو على ما تبقى من صحون المائدة « الفتات « ، وعلى طريقة من يهن يسهل الهوان عليه يتهافت على الفتات لا تُثنيه ذلة ولا تثور له كرامة ، فكيف يمكن لمعارضة هذه حالها أن تُسهم فى إنتشال البلاد من مأزق الحكم الذى أغرقه فى الأزمات ؟.وكيف لا يتساءل الشعب المغلوب على أمره عن البديل لحكومة الإنقاذ ؟. ولكن دعونا نتفرس فى وجه تاريخ قيادات أحزاب المعارضة عبر عمرها المديد ونتساءل عن ما قدموه لهذا السودان ومن أى موقعٍ من مواقع الإنتاج أو مواقع خدمة الشعب السودانى ، ليتعلموا الإحساس بمعاناة المواطن السودانى ويصبحوا أكثر جدارةً بثقته ؟... ألم يكن أكثرهم قد ورثوا أحزاباً ومريدين على إستعداد لخدمتهم وأطياناً ظلوا على خيرها عاكفين ، يقتاتون ويتعلمون ويتحينون الفرص لحكم البلاد لا لشئ إلا من أجل تعزيز هذه المصالح الموروثة وتأمين إستمرارها ما بقى هذا السودان ؟ وحتى لانُتهم بإلقاء القول على عواهنه وإتهام المعارضة جُزافاً ، نُذكِّر بالسيرتين العطرتين للفذين ، الزعيم نلسون مانديلا والملهم المعارض المهاتما غاندى وحزبيهما ، ففى سيرتيهما ، وهما يزاولان مهنة المحاماة لكسب عيشهما ، ما يغنى ويكفى لنموذج الزعيم المعارض الحقيقى الذى لا تلهيه ملهاةٌ ولا تسترقه مصلحةٌ شخصية يُخالطها بنشاطه المعارض والذى يستطيع أن يُحدث التغيير الذى ينشده شعبه . مخطئٌ من ظن أن الشعب السودانى لم يخرج إلى الشارع للإطاحة بحكومة الإنقاذ هياماً منه بهذه الحكومة التى قسمت البلاد واحتكرت السلطة والثروة وأنزلت بمعارضيها سوط عذاب ، وإنما السبب يعود إلى أن الجماهير فقدت الثقة فى قيادة هؤلاء السياسيين الذين يتصدرون صفوف مايُعرف بالمعارضة السياسية ، وأدرك أنهم هم أيضاً مجرد طلاب سلطة فقط لا أكثر ولا أقل، فلقد فضحتهم مواقفهم من النظام الحاكم وفضحهم إفتقارهم إلى البرامج والإستراتيجيات التى تتناول الحلول الناجعة لمشاكل وقضايا الوطن وبعدهم عن معاناة الشعب السودانى ، لقد إكتشفت الجماهير أنهم سياسيون محترفون يغلب عليهم السلوك الإحترافى فى القيام بدورهم المعارض لسياسات الحكومة ، فهم يتاجرون بقضايا الوطن ليس إلا ، هم محترفون مثلهم مثل محترفى الرياضة عموماً وعلى وجه الخصوص محترفو كرة القدم ، فقد لاحظ المهتمون بالرياضة فى أفريقيا أن الفرق الأفريقية القومية التى تحتشد بنجوم أثروا الملاعب الأروبية ، فناً ودهشةً ، وكسبوا ملايين الدولارات ، يلعبون هناك كرة قدم عالية المستوى متطورة وحماسية حتى وصلوا فى التصنيفات الدولية الى أعلى المستويات كأفضل لاعبى العالم ، ولكن عندما يتم إستدعاؤهم للدفاع عن ألوان منتخاباتهم الوطنية فى الإستحقاقات المحلية داخل القارة الأفريقية ، تجدهم يخذلون جمهورهم ويلعبون كرة القدم وكأنها لعبة جديدة عليهم ، والسبب يعود فى ذلك إلى العقلية الإحترافية لهؤلاء اللاعبين ، إذ يدركون جيداً أن الإستحقاقات الوطنية ليس لها عائد مادى ولذا لا يلعبون بحماسةٍ وشجاعة حتى يتجنبوا إصابة أقدامهم لأن الفرق الأروبية التى تدفع لهم كل تلك الأموال الطائلة سوف لن تتعاقد معهم مرةً أخرى بل تشطب اللاعب المصاب ، حال سياسيينا هو مثل حال هؤلاء اللاعبين المحترفين ، فحديثهم عن دعوة الشارع للخروج وقيادتهم له مجرد تحريض من بعيد ومن وراء تُقاةٍ ، يتهيبون تقديم التضحيات التى تتطلبها مثل هذه المواقف ، ثم لن يلبثوا أن يتواروا عن الأنظار ريثما تُثمر تحركات الجماهير الثائرة عن النتائج المرجوة ثم يتقدموا الصفوف ليواطئوا السلطة فهذا جل ما يستطيعون القيام به وما يشعرون أنهم خليقون به ، بل حتى دعوة الشارع للثورة كفوا عنها أخيراً ، كنت أتمنى أن يسألوا أنفسهم لماذا لم يستجب الشارع السياسى لدعوتهم وتركوا قادة المؤتمر الوطنى يستثمرون عزوف الجماهير عن الخروج إلى الشارع ويدّعون أن الشعب لم يخرج إلى الشارع لأنه ملتف حول حكومته - حكومة الإنقاذ ومتماهٍ معها ، ومن كثرة ترديد هذه الحجج لعدم خروج الجماهير الشارع صدق الجميع بما فيها أحزاب المعارضة هذه الفرية ولو كلفت نفسها عناء معرفة أسباب ذلك العزوف لعلمت أن الجماهير فقدت الثقة فيها وفى قدرتها على قيادتها ، لتفقد الإثنين معاً ، فلا حكومة تحقق لها طموحتها ولا معارضة تردها إلى جادة الصواب .